Sunday, September 30, 2012

ثقافة التطوع

Image from http://mazhavaifoundation.com/Gallery.html

من بين الأمور التي جذبت انتباهي في الولايات المتحدة فكر التطوع وأهميته في المجتمع والذي بدا لدهشتي فكرا متأصلا في الثقافة الأمريكية. فالصورة الذهنية المعتادة التي نرسمها عن أمريكا أنها دولة رأسمالية قاسية لا مجال للتعاضد والرحمة فيها، أو بالأحرى مجتمعات تعاقدية، كما أطلق عليها الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله وذلك مقارنة بمجتمعاتنا التراحمية، إلا أنني أجد الآن ذلك الوصف غير منصف. فمثلما اعتاد أهل الخير عندنا في شهر رمضان من كل عام على تدبير احتياجات الفقراء من الطعام بما يعرف بشنطة رمضان التي توزع في مختلف أحياء مصر الفقيرة، اعتاد أهل الخير في أمريكا أيضا في موسم الاحتفال بأعياد الكريسماس من كل عام على تدبير احتياجات الفقراء من الطعام فيما يعرف بسلال عيد الميلاد. فأهل الخير تجدهم عندنا وعندهم ولايهم اختلاف اللون والعرق والدين. 


بدا لي أن التطوع وخدمة المجتمع فكرة تغرس في ثقافة الأفراد منذ الصغر وتستمر معهم بمرور سنوات العمر وذلك بالرغم من كونه مجتمعا يدعم الفردية، وهو أمر احترمته كثيرا، فالتجربة والمسئولية الفردية أساسية هنا ولكنها ليست شاردة عن مجتمعها تماما كما كنت أظن. في موسم الدراسة تجد في الصباح الباكر مجموعات من الأطفال تترواح أعمارهم بين التاسعة والحادية عشرة (يُسمون بأطفال الدورية) يرتدون أحزمة فسفورية اللون ويجبون شوارع الضواحي المحيطة بالمدرسة وبصحبتهم أطفال أصغر في العمر يوفرون لهم الحماية ويساعدونهم على عبور الشوارع حتى يصلون إلى المدرسة بأمان. ومجموعات أخرى توجد داخل ردهات المدرسة الكثيرة وحول أبوابها بصحبة المدرسين لتأمين وتوجيه الأطفال الأصغر سنا قدر الإمكان، خاصة أطفال الروضة والصف الأول والثاني الإبتدائي، الذين يصعب عليهم في بداية العام الدراسي حفظ الردهات المؤدية إلى فصولهم. بل توجد مجموعات من هؤلاء الأطفال لتنظيم دخول حافلات المدرسة إلى موقفها ومنع دخول سيارات آخرى عن طريق الخطأ إلى موقف تلك الحافلات. وفي مطعم المدرسة تقسم أعمال التنظيف على الأطفال منذ الصف الأول الابتدائي بشكل دوري. بعد انقضاء وقت الغذاء يتقاسم الأطفال وفقا لجدول محدد أعمال مسح الطاولات وكنس الأرضيات حولها (تشتكي ابنتي التي تدرس في الصف الأول الابتدائي هذا العام، والتي تأنف بشدة، من أنها لا تحب تنظيف الطاولات لأنها تكون متسخة جدا، اشفق عليها ولكنني أيضا بشقاوة أم أفرح فيها وأجدها فرصة ليشتد عودها).


في المكتبة العامة تعجبني تلك السيدة ذات الشعر الأبيض القصير، الذي يرتسم حول وجهها كهالة نور، والتي تأتي متطوعة في يوم ثابت أسبوعيا لتقرأ للأطفال من رواد المكتبة قصصا. ويلفت انتباهي في لوحة أخبار المكتبة إعلان عن طلب متطوعين لتوصيل الكتب إلى كبار السن في البيوت يشير إلى مميزات التطوع في المكتبة العامة بالنسبة للراغبين في العمل في مجال المعلومات والمكتبات، فالتطوع للعمل في المكتبة يمكن أن يؤهلهم للحصول على منح دراسية من رابطة المكتبات الأمريكية. وعلمت فيما بعد أن العمل التطوعي يدعم في العادة من قوة السيرة الذاتية للمتقدم لأي عمل. وتذكرت أن نجاحي في الحصول على المنحة الدولية لمؤسسة فورد الأمريكية وأنا بعد أعيش بالقاهرة كان من بين أسبابه عملي التطوعي في مصر آنذاك.

للعام الثاني أقوم بالتطوع في مدرسة ابنتي الابتدائية بالمشاركة مع عدد من الآمهات والأباء. تعتمد المدارس  العامة هنا بشكل كبير على المتطوعين الذين يمدون يد العون للمعلمات والمعلمين داخل الفصول وفي الأنشطة المدرسية المختلفة  تطوعت العام الماضي في فصل ابنتي في حصة الفن أو الرسم. كنت أساعد مدرسة الفنون في الحفاظ على الانضباط وتوجيه الأطفال وتشجيعهم ومساعدتهم في إعادة ترتيب حجرة الرسم بعد انتهاء الحصة. كما كنت اقرأ بين الحين والآخر قصة لنور ورفاقها في الفصل، ولكم أحببت تحلقهم حولي ورؤية وجوههم الصغيرة يرتسم عليها الانفعال بأحداث القصة وتعليقاتهم الذكية وعيونهم اللامعة. كما أحببت تحيتهم لي والابتسامة مرتسمة على وجوههم تمنحني دفئا وحبا كلما قابلوني مصادفة في ردهات المدرسة أو في وقت الانصراف قائلين: Hi Nour’s mom أو   Bye Nour’s mom أهلا أم نور أو مع السلامة أم نور، لصعوبة تذكرهم لاسمي لوقعه المختلف عن ما اعتادوا عليه من الأسماء، فأصبحت أُكنى بينهم بأم نور. وفي نهاية العام الدراسي ارسلت معلمات نور هدية رمزية لي مصحوبة ببطاقة شكر رقيقة لأنني مددت يد المساعدة. أما هذا العام فاقوم بالتطوع في مكتبة المدرسة (وتلك قصة أخرى).

 وفي جلسة توجيه المتطوعين الجدد بمكتبة مدرسة ابنتي التي حضرتها هذا العام عددت أمينة المكتبة من مزايا التطوع التي من بينها التعرف على أناس جدد بخبراتهم وقصص حياتهم المختلفة "فمن الجيد دائما أن تتعرف على أناس جدد" على حد قولها.. وقد صدقت في ذلك.. فهناك ميزة أضافها لي العمل التطوعي في بلد غريب..فقد أتاح لي التطوع الأقتراب من الناس مما جعلني أرى صورا إنسانية بعيدة عن تحليلات المفكرين وحروب السياسيين وما تبثه في عقولنا شاشات التلفزة ..ليس بالضرورة أن كل ما أراه وأدركه حسن ولكنني على الأقل أرى الآن الصورة بألوانها المختلفة.. فالحياة من حولنا تقع في تلك المساحة الوسطى بين الأبيض والأسود وبها قطاع عريض من الألوان..وفي تلك المساحة تقع يومياتي عن أمريكا.