Monday, June 23, 2014

موسيقى بغداد الصامتة


في أجواء الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 أراد رسام وكاتب الأطفال الأمريكي جيمس رمفورد ،James Rumford المعارض للحرب، أن يروى قصة مختلفة عن العراق. أراد أن يرسل تحية إلى العراق وأناسها وتاريخها وثقافتها المنسية في غيوم الحرب. فكان ميلاد قصته المصورة التي اختار لها عنوان "الموسيقى الصامتة .. قصة عن بغداد" ونشرت في عام 2008.

أعادني المشهد العراقي الحالي إلى تلك القصة العذبة التي تحكي عن صبي يدعى عليّ يعيش في مدينة بغداد التي تمر بأوقات عصيبة. يحب عليّ لعب كرة القدم والموسيقى، ولكن عشقه الحقيقي يكمن في الخط العربي فهو يقضي معظم وقته في الرسم بالحروف العربية الجميلة الطيعة. شأنه في ذلك شأن ياقوت المستعصمي فنان الخط العربي المبدع الذي عاش في بغداد منذ أكثر من 800 عام مضت، وشاءت الأقدار أن يكون هو الأخر معاصرا لحرب المغول الشرسة على العراق. 

 يحكي لنا عليّ عن أسرته وحياته من خلال رحلته مع الرسم بالحروف العربية. فيشرح لنا إحساسه بتدفق الحبر من قلمه وهو يرسم الحروف على الورق، يقف بقلمه حينا وينزلق به حينا أخر وكأنه يرقص على أنغام موسيقى صامته برأسه. ويصور لنا كيف أن كتابة جملة طويلة تشبه مشاهدة لاعب كرة قدم بالحركة البطيئة وهو يركل الكرة عبر الملعب مخلفا وراءه آثرا من النقاط والحلقات. يشرح لنا كيف أن رسم حروف اسم اخته ياسمين أسهل من رسم حروف اسم جده مصطفي. ويذكر عليّ أن والدته تداعبه دوما وتناديه بياقوت على اسم فنان الخط العربي المعروف الذي يتخذه مثلا أعلى له لأنه كان قادرا على الإبداع وخلق ما هو جميل في أصعب اللحظات. فمما يُروى عن ياقوت المستعصمي أنه عندما غزا المغول بغداد واحرقوا المدينة وقتلوا ألاف السكان الأبرياء صعد إلى برج عال هربا من كل ذلك القبح والجنون وبدأ ينظم ويرسم بالحروف أعظم الأشعار.



 وفي ليلة مرعبة في عام 2003 دوى صوت القنابل والصواريخ في سماء بغداد وعم الدمار والموت أرجاء المدينة  مجددا، وكما هرب ياقوت إلى الحروف والكلمات والجمال، ظل عليّ طوال تلك الليلة الرهيبة يرسم لوحات بالحروف والكلمات، وملأ عقله وروحه بالسلام. ثم يتأمل عليّ كيف أن حروف كلمة حرب أسهل في رسمها من حروف كلمة سلام التي تقاومه حروفها المائلة بعناد عند رسمها. ويتساءل كم يتطلب من الوقت ليتقن رسم حروف كلمة سلام فتنساب بحرية عبر قلمه؟

 عاودت قراءة قصة عليّ وموسيقاه الصامتة مع ابنتي نور لنتذكر معا أن وسط الحروب والاقتتال يعيش أناس يحملون اسماءا وقصصا فهم ليسوا مجرد أرقام في نشرة أخبار. لنتذكر أن هناك تاريخا وحضارة وثقافة وجمالا حجبتها غيوم الحرب بقبحها، لكنها حاضرة لتراها العيون التي باستطاعتها أن ترى وتحلم بالرغم من سواد الغيوم.

 *استعرض رمفورد جماليات الخط العربي والتصميمات الهندسية الإسلامية بلوحات مبدعة جعلت من الكتاب تحفة فنية لابد من اقتناءها. جيمس رمفورد رحالة ورسام وكاتب للأطفال وصانع للكتب. يعيش بولاية هاواي الأمريكية. يعشق الفنون البصرية واللغات وفن الخطوط اليدوية، ويرى أن الخط العربي من أجمل الخطوط في العالم. تذكرني كتبه بكتب رسام الأطفال وصانع الكتب المصري الراحل محيي الدين اللباد. فكلاهما عاشق للفنون البصرية والخطوط والتفاصيل، وكلاهما يهدف إلى لفت انتباه الفتيان والفتيات إلى الجمال الكامن في عالمنا. لرمفورد كتاب أخر بديع عن ابن بطوطة الرحالة العربي، ولكن تلك قصة أخرى.