1
كنت أقلب أوراقى القديمة لاختار أيها سأعرضها عليكم فطالعتنى خاطرة كتبتها عام 2003 ادهشنى محتواها لأسباب عدة :
أولها أنها توثق لبحثى عن دور أقوم به فى مجتمعى ، و لحيرتى آنذاك مما يمكن أن أفعله لمساعدة الناس على التفكير الحر و رؤية العالم بشكل أرحب ، و إذا ما كنت قد خلقت لمثل هذا الدور و إذا ما كان باستطاعتى القيام به . كما توثق لغضب حملته فى تلك الفترة للناس و للحياة فى مصر ، كما تكشف رغبة فى البعاد للبحث عن رؤية جديدة . فى العام التالى حصلت على زمالة برنامج المنح الدولية لمؤسسة فورد الأمريكية و التى تخصص للأفراد الراغبين فى تحصيل العلم للمساعدة فى نهضة مجتمعاتهم ، و عملت بصورة غير منتظمة بالمجتمع المدنى المصرى ، و لكن انشغالى بالدراسة و الأمومة حال دون تطور خبرتى فى هذا المجال ، وتحقق البعاد بعد ذلك بست سنوات .
وهاأنا بعد مرور عامين على تخرجى من البرنامج و حصولى على درجة الماجستير فى الصحافة و الإعلام و بالرغم من أننى تعلمت الكثير إلا أننى مازلت فى ذات اللحظة التى كتبت فيها تلك الخاطرة .. مازلت أبحث عن دور و مازال الطريق أمامى يبدوغائما. أحيانا يتخذ البعض منا طريقا أطول للوصول. و أنا طريقى متعرج و الثابت فيه هو الحلم الذى لا ينقطع و البحث الذى لا يهدأ.
ثانى الأسباب أن الخاطرة تتناول ثلاثة كتب قرأتها آنذاك و هى " معا على الطريق " للمفكر المصرى الراحل خالد محمد خالد و " صور المثقف" للمفكر الفلسطينى الأمريكى الراحل إدوارد سعيد و " وقفة قبل المنحدر .. من أوراق مثقف مصرى " للأديب المصرى علاء الديب . يعزف المؤلفون فيها نغمة واحدة من البحث فى دور المثقف و الرفض لإرهاب الفكر و الضمير. و أنا حاليا أعيد قراءة كتاب " أبناء رفاعة " للأديب بهاء طاهر الذى يبحث فى الفكرة ذاتها (دور المثقف) مع تركيزه على مشروع النهضة المصرية الذى قاده قادة التنوير فى مصر بدأَ من رفاعة الطهطاوى و على مبارك و مرورا بالشيخ محمد عبده و عبد الله النديم و قاسم أمين و وصولا لطه حسين و أزيد عليهم أحمد أمين و أمين الخولى و الشيخ مصطفى عبد الرازق ، و الذين - فى رأيى - اختلفوا كثيرا عن أجيال المثقفين اللاحقة بأن كان لديهم مشروع تنويري حقيقي ارتبط فى إحدى جوانبه بشكل مباشر برجل الشارع البسيط و لم يكونوا منهمكين بمخاطبة بعضهم البعض فقط.
و ثالثا أن الغضب الذى حملته فى الفترة التى كتبتُ فيها تلك الخاطرة كان من بين أسبابه ملاحظتى لبداية ظهور الفكر السلفى فى مصر و الذى أدركنا توغله الآن فى مصر فى بيئة أصبحت بفعل سنوات القهر و الجهل صالحة لنموه و ازدهاره .
و رابعا أننى استعدت أثناء قراءتى لخواطرى تلك الشعور نفسه بعدم القدرة و امتلاك الأدوات اللازمة للمساعدة فى تحقيق التغيير الذى أنشده. بعد ثورة مصر العظيمة و المفاجئة كتبت لى " نشوى" صديقتى الجميلة الحالمة " عودى هذا وقت الشرفاء " ارتبكت لأنى لازالت أحمل ذات الشعور بعدم القدرة و أننى لازلت بحاجة لمزيد من الوقت و الخبرة و العلم و الحكمة لأعود. لازلت إذن فى ذات اللحظة التى كتبت فيها تلك الأوراق . المختلف أن المارد استيقظ فى مصر بعد سبات عميق و أن أملا – لم أشارك فى صنعه للأسف – قد بدأ فى شق طريقه إلى الروح المصرية ، و المختلف ربما أيضا أننى أصبحت أكثر قدرة و جرأة على حسم بعض الأمور و الصراعات و سأرجىء الحديث عنها لتدوينة أخرى.
سأترككم مع خاطرة من أوراقى القديمة و سأعود بعدها للحديث عن كتاب " أبناء رفاعة .. الثقافة و الحرية " الذى كتبه بهاء طاهر مايو 1993 ، حيث تأتى رؤيته التحليلية للمشروع النهضوى الثقافى المصرى المبتور متوافقة مع المشهد السياسى و الاجتماعى و الثقافى فى مصر الآن ، ويأتى سرده التاريخى لما حدث فى مصر ثقافيا و اجتماعيا على مدى قرنين من الزمان مشابها لما نلمسه الآن فى المشهد المصرى ، و كأنه قد كتب على مصر أن تدور فى دوائر و أن تصل بعد السعى إلى ذات نقطة البدء.
مصر الجديدة 28-12-2003
يقول المفكر الفلسطينى الراحل إدوارد سعيد فى كتابه (صور المثقف) " أريد أن أشدد على أن المثقف فرد له دوره العمومى المحدد فى المجتمع الذى لا يمكن اختزاله ببساطة إلى وظيفة لا وجه لها ، إلى مجرد فرد مختص منشغل تماما بعمله . إن الحقيقة المركزية بالنسبة لى ، كما أظن ، هى أن المثقف فرد منح قدرة على تمثيل رسالة ، أو و جهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأى ، و تجسيدها و النطق بها أمام جمهور معين و من أجله "
أحيانا أتساءل هل منحت هذه القدرة على تمثيل رسالة أو موقف او رأى؟ هل منحت هذه القدرة على تجسيد ذلك و النطق به أمام الناس؟ أم أننى أخشى مواجهة الناس؟ اشعر فى بعض الأحيان أن لدى هذه القدرة على المواجهة ، و أحيانا أخرى أشعر أننى لا أملكها .. كل ما أعرفه أن لدى رغبة ملحة لمشاركة الناس و اطلاعهم على ما اكتشف و أعرف .. و كل ما أعرفه أننى عاشقة للإنسان و استعير هنا كلمات الكاتب خالد محمد خالد من كتابه (معا على الطريق) لأن بها أبلغ وصف لما أحس به تجاه هذا الكائن المعجزة الإنسان .. فيه تكمن المعجزة و القدرة لكنه قليلا ما يدركها " الإنسان هذا الاسم ذو الرنين الصادق ، الفاتن المثير .. هذا الكائن الذى أؤتمن على كل أمانات الحياة و و اجباتها ، هذا المسافر الذى لا يضع عصاه عن كاهله لحظة ، و الذى يولى وجهه دوما شطر كمال بعيد .."
الإنسان معجزة من معجزات الرحمن ، فى أنفسنا يكمن سر الكون و الحياة ، نتواصل مع إله الكون من خلال ما منحه لنا من عقل يتدبر و يتأمل ، ما منحه لنا من قلب ينبض و يشعر ، و ما منحه لنا من عين تحتضن جمال الكون و اتساعه .. الكون الذى خلق من أجلنا .. من أجل أن نتعلم و نتحاب و نتعاون .. من أجل أن نتواصل مع بارئنا حتى نعود إليه مجددا .. لنحيا. لذا أجدنى دائما منجذبة إلى فكرة الخلاص الجماعى أود أن يرى الناس و يدركون رحابة الحياة و جمالها ، خصوبة الافكار و ثرائها، أريد للناس عينا ترى و تدرك ، قلبا حيا ينبض ، عقلا يتفكر و يتدبر ، و أعود لأستعير بضع كلمات من كتاب (معا على الطريق) الذى يفيض إنسانية و إيمانا حيث يرى كاتبه أن أول مظاهر الوجود الحق للإنسان هو الفكر " و كل دفاع عن حرية الضمير ، و حقوقه .. هو دفاع عن حرية الفكر و حقوقه .. إن التفكير عملية ذهنية نزاولها جميعا بإسلوب تلقائى حتمى لا نتكلفه، و لسنا على دفعه بقادرين. كل فرد يفكر فى شئونه ، و شواغله ،و رؤى نفسه ، و كل فرد يعبر عن ذات نفسه بالطريقة التى التى يستطيعها. و يتعرقل تفكيرنا و ينافق تعبيرنا ، حين تصيبنا بعض الضغوط الكابحة ، هذه الضغوط ترتكب جريمة إرهاب الضمير" و هو يرى أن إرهاب الضمير أشد قساوة و ضررا من إرهاب الجسد ، لأن إرهاب الجسد قد يكبت التصرفات و السلوك و القول أما إرهاب الضمير" فيسلط على بؤرة الحياة فيفسدها إفسادا لا يكاد يصلحها بعد ذلك شىء ، لانه توجه إلى العقل و التفكير ، إلى الجهاز العظيم الذى يصنع لنا فى الحياة كل جليل من الأمور .. و يأتى انحراف الضمير من تضليله ، و حبس المعرفة عنه ، و عن طريق إرهاب الضمير بالتخويف الدينى و السياسى و الاجتماعى."
أرى أن هناك أناسا كثيرين مضللين فى وطنى .. أود حقا أن أتمكن من المساهمة بشكل أو بأخر فى إزالة أسباب التضليل .. أن أتواصل مع الناس بشكل أكثر إيجابية ، أكره النقاب ، اكره الجهل ، أكره الظلم ، أكره التطرف ، أكره كل ما يشوه الإنسان و يمنعه من التواصل مع بارئه و الشعور الحق به و إدراك عظمته و رحمته و جماله و جلاله. قد يكون ما اشعر به و أرغب فى تحقيقه حلما يوتوبيا .. لكننى سأسعى إلى تحقيقه قدر المستطاع فيما أقدمه من اعمال ، و فى حياتى اليومية ، عل آرائى و أفكارى تجد صدى لها وقت ما .. فى زمن ما ..
و أتذكر فى هذا المقام ما جاء بالسيرة الذاتية (وقفة قبل المنحدر .. من أوراق مثقف مصرى) للأديب علاء الديب عن المثقف ، هو يرى أن لا أحد يشعر بمعنى التخلف قدر ذلك الكائن الذى يطلق عليه المثقف ، هو عبارة عن "تركيبة غريبة تطمح دائما إلى أن تعيش فى المعانى المطلقة و المجردة للأشياء ، أقدامه مغروسة فى طين الواقع ، و عيونه الفاحصة المدربة قادرة على اكتشاف أصغر ما فى واقعه من متناقضات مزعجة . إحساسه المركب قادر على تكبير الأخطاء ، و رؤية ما خلفها من معانى و دلالات. و الأدهى و الأمر ان أغلب أحلام المثقف مرتبطة بفهم الواقع بل و العمل على تغييره ، وضعه المعلق دائما بين الحلم و الواقع يجعل منه وترا مشدودا ، و ضعه هذا يجعله يعيش اللحظة مرتين يذوق المر مرتين و يندر أن يبقى فى فمه طعم لحلاوة"
إننى أشعر فى احيان ليست بالقليلة أن لدى إحساسا مضاعفا بكل ما يدور حولى و كأن لدى مجسم للمشاعر و إنه لأمر مرهق و مؤلم ، إننى أعيش اللحظة مرتين أيضا و أشعر و أتفهم ما كتبه علاء الديب فى نفس العمل عن التخلف الذى أعايشه كل يوم فى الشارع ، فى العمل ، فى عقول الناس ، فكانه يكتب ما افكر فيه" ليس التخلف فقرا فقط إنه كائن أخطبوطى . ولد فى الظلام من الفقر و الجهل ، و عاش فى الغفلة و البلادة ، تربى فى العجز و ضيق الأفق . التخلف بالنسبة لى جسد حى أصارعه فى كل لحظة من لحظات وجودى ، فى بيتى ، فى الشارع ، و فى الوجوه و المشاعر ، فى مداخل المدن و تحت الكبارى ، فى العلاقات بين الناس ، فى الحب ، فيما أقرا و أتناول .. "
من الغريب أن شعوره بالتخلف من حوله يدفعه لسبب لا يعلمه كما يقول إلى مزيد من الارتباط و النتماء ، إلى مزيد من الحلم بأن يعيش و الناس واقعا جديدا. فيما مضى كنت أشعر بذلك الانتماء ، و على ما يبدو لى أنه لايزال موجودا بدرجة ما ، لكننى الآن فى هذه الفترة من حياتى أرغب فى الابتعاد عن وطنى لفترة حتى يتسنى لى إنقاذ نفسى مما يحيط بى من أمور تؤلمنى و تؤلمك بشدة (الخطاب هنا موجهه لرفيق دربى محمد الذى دوما أجدنى أخاطبه فى لحظة ما فى أوراقى) ، حتى أحافظ على ذاتى ، حتى أرى عوالم جديدة علها تساعدنى فى لملمة حيرتى، لكنى يجب أن أعترف بخوفى من الغربة، أريد أن ابتعد كى اتمكن من الاقتراب مرة أخرى ، لكننى اخشى الابتعاد و انهكنى القرب .. معادلة صعبة على حلها عندما يحين الوقت.