يمكن للإنسان أن يكتشف عوالم رحبة في أكثر الأماكن غرابة.. في قطعة ورق! مازلت أذكر كيف
كانت تغمرني السعادة وأنا بعد فتاة صغيرة عندما يقوم والدي بطي ورقة ليصنع لي
مركبا أو ضفدعة أو طائرة. كنت أقف مبهورة به أتأمل أصابعه وهي تقوم بطي ورقة بسيطة
لتحويلها إلى لعبة. ما كان يقوم به والدي
ليدخل السرور إلى قلبي هو أبسط صور فن، أو إن شئت أن تسميه، علم
"الأوريجامي" أو "طي الورق"، والذي يلقي الفيلم الوثائقي "بين الثنايا" أو "Between the folds"
الضوء على عالمه السحري. يعرض الفيلم لفكر وتجارب عدد من محترفي طي الورق أو " the Folders". ينتمي هؤلاء
المبدعون إلى تخصصات مختلفة فمنهم المثال، وصانع الورق، والفيزيائي، والمصمم وعالم
الرياضيات، ويأتون من بلدان وثقافات مختلفة ليمنح كل منهم بصمة متفرده وأشكالا
مختلفة للورق بطيه. فالورقة واحدة لكن الشكل دوما مختلف! يتحول الورق إلى تمساح ضخم بحراشفه
المعقدة أو قوقعة بدقة تفاصيلها أو عازف كمان بإنحناءات يديه وجسده أوطائر أو حشرة
أوشجرة أو وجه أو إلى مجالات وأشكال هندسية تطوى ثم تنبسط كاشفة عن الضوء يتلاعب
بين ثناياها، وإلي أشكال أخرى كثيرة لا يسعني وصفها.
Image from thefoxisblack.com |
وليس
"الأوريجامي" مجرد طي للورق لتحويله إلى أشكال، ولكنه يحمل بين ثناياه حكمة
وعلما. يرى واحد من محترفي الطي أن الأوريجامي يشبه الإنسان في حاجة كل منهما إلى
التغير "فالأوريجامي هو إلي أي مدى يمكنك تغيير ذلك المربع عن طريق الطي
فقط". ويدعوك أخر إلى إحصاء عدد الأشياء المطوية حولك، ويقول مخاطبا محاوره في الفيلم" أكثر الأشياء
وضوحا الآن ياقة القميص الذي ارتديه ..ثنايا الجلد فوق عيني .. عندما اتحدث إليك
فإن الهواء يطوى حتى يصل إلى أذنيك .. المجرات تطوي ذاتها وهي تتحرك..حتي تركيبنا
الوراثي ال DNA مطوي.. أنا وأنت جئنا من بين تلك
الثنايا". المدهش أن مجالات
علمية عدة كالهندسة، والطب، والنانو تكنولوجي، والطبيعة، والفضاء تستخدم الطي لحل بعض المشكلات.
آخرها محاولة علاج الأمراض التي تنتج عن خلل في طريقة طي البروتينات في الجسم، على
ما يبدو بإعادة طيها بشكل سليم، فالبروتينات التي داخلنا أيضا "مطوية".
بعد مشاهدتي للفيلم وجدتني أردد في نفسي تلك
الآية البليغة "وفي الأرض آيات للموقنين"[1] وكأني أدرك لها معنا جديدا بعثه إلي قلبي
"طي الورق".. يتواصل الإنسان مع
خالقه بمحاكاة إعجاز خلقه سواء جاءت تلك المحاكاة في لوحة أو مقطوعة موسيقية أو
اختراع علمي أو طية ورق كما في الأوريجامي.. ولقد استوقفني مشهد من الفيلم لأكيرا
يوشيزارا Akira Yoshizara الأب الروحي للأوريجامي،
كان الرجل على مابدا لي يصلي أو يتضرع أمام الورقة قبل أن يبدأ في طيها، لا أعرف
بماذا كان يتمتم في سره، ولكن المشهد أثر في، فتصورت أن تلك الورقة ربما هي الرابط
بينه وبين الخالق..فالتأمل والمحاكاة طريق للفهم وكأن الوجود محمل بشفرات كلما تمكن
الإنسان من فك شفرة منها اقترب خطوة من خالقه، قد يبتعد أو يشذ أحيانا، لكنه دوما
يعود.. أو هكذا آمل.
كم انت ملهمة يا لبنى كالعادة .. لقد ادهشتيني بهذه المقالة البسيطة الرائعة .. فالتقاطك لهذه الفكرة والتعبير عنها بهذا الرقي شئ جد رائع والاستنتاج التأملي الذي دفعتك إليه الفكرة كان موفقا للغاية .. وقد أثرت لدي مجددا فكرة تلازمني كثيرا في تأمل الحياة .. وهي أن الكون والحياة ليسا مسطحين أي لايمكن رؤيتهما والحكم عليهما من زاوية واحدة ولايمكن فهمهما من زاوية واحدة .. ولكننا نستطيع تفسير الكون والوجود من أي زاوية نقف فيها.. فالطبيب يمكنه تفسير العالم من زاوية الطب .. والنجار يمكنه فهم العالم من زاوية الخشب وتشكيله .. وعالم الفيزياء والكيمياء والرياضيات يمكن لكل منهم تفسير الكون من زاوية رؤيته وخبرته وحتى الكناس في السارع يستطيع أن يفهم الناس والحياة ويفسرها ويستخرج الحكمة من خلال طأطأة رأسه للمح البقايا على الأرض وحركة مكنسته في كل زاوية .. مهما كان مكان الإنسان أو خبرته يستطيع أن يشرح لنا الكون من تلك الزاوية... وفي النهاية الكل يصل لنفس النتيجة .. الكل يصل للحكمة .. إذا أعمل عقله وتأمل .. وكل منهم سيجد أن ما يفعله ويقوم به ما هو إلا تقليد لما هو موجود أصلا ولكنه يغيب عن أعيننا ونظرتنا المباشرة .. الكل إذن يصل لنفس النتيجة.. إنها النتيجة التي تقع هناك في المركز .. في
ReplyDeleteمركز الكون .. وفي مركز الحقيقة .. الكل يصل إلى الله .. ولهذا كانت المفاجأة بالنسبة لي أنه حتى طي الورق وما كنا نفعله صغارا من صنع مراكب وزهور وبنادق وطائرات .. ما هو إلا تقليد للوجود حتى في أدق وأخفى تفاصيله .. في الجينات الوراثية .. وذكرتني كلمة طي ويطوي وطوى وانطوى بفكرة أن الإنسان نفسه ما هو إلا صورة من الكون تشبهه .. أو كما قال العبقري الآخر: أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر؟؟
أحمد مرزوق
أشكرك يا أحمد كثيرا لمنح خاطرتي بعضا من وقتك واتفق معك في تأملاتك بأننا نستطيع تفسير الكون والوجود من عدة زوايا..وهأنت تستشهد بابن عربي شيخ الصوفية الأكبر:)
ReplyDeleteكماذكرتني تأملاتك بجملة لمستني في رواية "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي "لكل منا مفتاحه الذي يفتح به لغز العالم" والتي أراها صائبة لحد بعيد
اتمنى أن تستطيع مشاهدة الفيلم كاملا يا أحمد فهو أكثر من رائع وملهم للغاية
شوقتيني اتفرج على الفيلم..
ReplyDeleteواحنا صغار كانت من العابنا المفضلة ايضا عمل المروحة بالورق المقوى. والدي علمنا اياها من ذكريات طفولته.. فكنا نصنعها ونلونها.. ساعات نضيف لها بعض الشخاليل ونتركها في البلكونة تدور لوحدها ..
وقد يكون هو من اول الأشياء اللي صنعناها بايدينا واحنا صغار.. :)
ثم توالت بعد كدة المركب والطيارة.. بس بتفضل المروحة اقربهم ليا
(يرى واحد من محترفي الطي أن الأوريجامي يشبه الإنسان في حاجة كل منهما إلى التغير "فالأوريجامي هو إلي أي مدى يمكنك تغيير ذلك المربع عن طريق الطي فقط".)
عمر ماجت على بالي الفكرة.. لازم اشوف الفيلم..
لازم يا إيمان تتفرجي على الفيلم ملهم للغاية :)
ReplyDelete