Tuesday, December 4, 2012

أمريكا: تأملات حول فكر التنوع

أثناء تفقدي لكتب الأطفال المعروضة للبيع في معرض صغير للكتب استضافته مَدرسة ابنتي الابتدائية بأمريكا، جذب انتباهي وجود كتاب يحمل عنوان "تحت قمر رمضان" (Under the Ramadan Moon). قصة رقيقة وناعمة عن شهر رمضان وكيف تحتفل به الأسر المسلمة في أمريكا، كيف يساعدون الفقراء ويقولون كلمات طيبة ويعدون الحلوى ويشعلون الفوانيس ويقرأون القرآن ويصلون. استوقفني المشهد..قصة عن شهر رمضان تعرض في معرض للكتب في مدرسة أمريكية ذات أغلبية مسيحية- مع الأخذ في الاعتبار أن الدين لا يدرس في المدارس الأمريكية العامة- وبجوارها قصة عن عيد الأنوار اليهودي وقصص عن الكريسماس الذي يقترب موعد الاحتفال به.
Image from amazon.com

حقيقة لم تكن المرة الأولى التي تدهشني فيها سياسة المؤسسة التعليمية في أمريكا التي تسعى إلى التأكيد على فكر المجتمع الواحد المتنوع. هناك توعية مستمرة بفكرة الاختلاف وتقبل الآخر لمكافحة الاضطهاد والتمييز العنصري على أساس العرق واللون والمعتقد بصوره المختلفة داخل أروقة المدارس، كأن تخصص مثلا المدرسة يوما  للتوعية ضد الإضطهاد والأسلوب المُستأسد بين التلاميذ أو التحرشBullying. وقبل أيام استوقفني عنوان قصة أخرى عن شهر رمضان في مكتبة المدرسة بعنوان" ماكس يحتفل برمضان" (Max celebrates Ramadan) تحكي عن الفتى ماكس الذي أمضى مع صديقه عمر وأسرته - والذي يبدو من الرسوم أنه من مسلمي باكستان وهي جالية كبيرة نسبيا في أمريكا- يوما ليحتفل معهم بأخر أيام شهر رمضان الذي يتبعه عيد الفطر.

لا أريد أن يفهم من حديثي السابق أن أمريكا هي يوتوبيا التسامح وتقبل الآخر خاصة فيما يتعلق بالمعتقد الديني. فبأمريكا جماعات دينية متطرفة تشبه إلى حد بعيد الجماعات السلفية وجماعات التكفير في مصر، ولديهم برامجهم ومحطاتهم التليفزيونية الخاصة أيضا. فبرنامج مثل نادي ال700 يشاهده ما يقرب من نحو مليون مشاهد يوميا ويحمل رسائل شديدة العداء والكراهية تجاه الإسلام والمسلمين. ويكفي أن تعرف أن قس مثل "ديفيد سيرلو" يروج في برامجه لفكرة أن الإنهيار الإقتصادي الأخير في أمريكا هو غضب من الله الذي من بين أسبابه السماح بوجود مسلمين بأمريكا وعدم وجود رئيس يحكم باسم المسيحية.
Image from Amazon.com

من الوارد جدا أن لا تلقى كتب مثل "تحت قمر رمضان" رواجا كبيرا بين الجاليات غير المسلمة ولكن تظل احتمالية أن يشتريها أو يطلع عليها غير المسلمين واردة. كذلك الأمر بالنسبة لكتب الاطفال على غرار "أنوار الحانوكا" من الوارد أن لا تلقى رواجا خارج الأوساط اليهودية ولكن احتمالية أن يطلع عليها غير اليهود تظل قائمة. بل إن وقوع العين، ولو مصادفة، على مثل تلك العناوين يكون بمثابة تذكرة عابرة للمواطن الأمريكي بمجتمعه المتنوع. ومن الجائز أيضا أن تحمل القلوب قلقا وريبة ورهبة مستترة خلف ابتسامات الجيران في الصباح. وأشير هنا إلى فيلم وثائقي أذاعته شبكة السي إن إن منذ عام تقريبا يحمل عنوان "غير مُرحَب بهم: المسلمُون في الجوار" (Unwelcome: the Muslims next door) يحكى عن أحداث شهدتها مدينة صغيرة في ولاية تنسي بدأت بشراء الجالية المسلمة بالمدينة - نحو 250 أسرة مسلمة استقرت بمدينة ميرفريسبرو منذ ثلاثين عاما- قطعة أرض لبناء مركز إسلامي ومسجد وهو حق يكفله لهم الدستور والقانون الأمريكي. آثار الأمر حفيظة رجل من أصل أفريقي فتزعم مظاهرات لوقف بناء المركز والمسجد، وتم رفع دعوة في المحكمة لمنع المسلمين من القيام بأعمال البناء تكفلت بالإنفاق عليها سيدة ثرية من سكان المدينة، وقد شمل الإدعاء "أن المسلمين يريدون قتلهم" و"أن المسلمين يضربون النساء" و"يشكلون خطرا على المدينة"و"لا يُشبِهونهم". ذكر الكاتب الصحفي جورج ألكسندر في مقال له حول الفيلم "بالهفينجتون بوست" أن ذلك الفيلم ومثيله من الأفلام الوثائقية ضرورة.. فهو يضع الأمريكيين في تحد لمعرفة حقيقة أنفسهم وطبيعة بلدهم واختبار قدرتهم على التسامح، وكيف يمكن لمعتقدات الناس وإيديولوجياتهم أن تصطدم بعنف مع المثل الأمريكية المعلنة للمساواة والديمقراطية.

بقي أن أشير إلى أن أحداث مدينة ميرفريسبرو قد انتهت بحكم المحكمة الأمريكية لصالح المسلمين. واكتمل بناء المركز والمسجد أوائل هذا العام. قد يبقى ما بالقلوب بالقلوب، وما بالعقول بالعقول، ولكن الدولة السليمة التكوين هي التي تأخذ على عاتقها لم شمل هذا الحشد المتنوع من البشر بدستور شامل وقوانين عادلة ونظام تعليمي واجتماعي وثقافي بل واقتصادي أيضا يدعو إلى فكرة المجتمع الواحد المتنوع ويذكر بها.
  
تأخذني تأملاتي تلك إلى مصر وثورتها وما تبعها من أحداث وضعت المصريين أمام مرآة أنفسهم.. وضعتهم في تحد سافر وصعب مع معتقداتهم وأيديولوجياتهم وفرقهم وطوائفهم..مصر بلد متنوع متعدد الفكر والثقافة والمعتقد.. حقيقة لابد من كل الأطراف الاعتراف بها..ربما تكون التجربة الأمريكية مختلفة بمقاييس التاريخ والنشأة ولكنها تستحق التأمل..ليبقى السؤال هل يستطيع المصريون بجميع طوائفهم تكوين دولة سليمة البنيان شاملة وعادلة؟  



  

Saturday, November 24, 2012

رائحة الكتب


 http://marciebrockbookmarketingmaven.wordpress.com
لزوجي عادة طريفة، كلما اشترى كتابا جديدا تجده بتلقائية شديدة قرب الكتاب من أنفه وراح يشم أوراقه لثوان وترتسم على ثغره لحظتها ابتسامة طفولية أحبها كثيرا. عندما لاحظت ذلك الأمر أول مرة ضحكت لأن لي أيضا عادة تتعلق بالكتب، أحب أن أمرر أصابعي ببطء على الغلاف وأوراق الصفحات لثوان فملمس الكتب الجديدة لسبب ما يبهجني، كما أحب رائحة حبر المطبعة.
عندما رضخت لجاذبية التكنولوجيا الحديثة وابتعت جهاز "نوك"Nook قارئ الكتب الإلكترونية وجدتني مرتبكة حيال استخدامه. اعترف بأن سعته التخزينية العالية وخفة وزنة ميزة لا قبل للكتاب الورقي منافسته فيها خاصة عند السفر، كما أن القاموس الإلكتروني المحمل بداخله يسهل كثيرا قراءة الكتب المكتوبة باللغة الإنجليزية فلا تحتاج أكثر من نقرة أصبع على الكلمة المبهمة لتجد معانيها المختلفة أمامك على الشاشة. وبنقرة أصبع أيضا تتصفح أحدث إصدارات الكتب، وبنقرة أخرى تشتري الكتاب الذي آثار اهتمامك لتجده في ثوان معدودة مُحَمَلاً في ذاكرة الجهاز. لكني ما أن قرأت بضعة كتب إلكترونية حتى اشتقت إلى ملمس الكتب الورقية وتلك العلاقة الشخصية الحميمة التي تنشأ بيني وبين ملمسها ورائحتها.

 كتبتُ من قبل عن هوسي بفعل "كتب" و"بالمكتوب" الساحر، المُغَير، المُقلِق، وأن من بين ما أحب، فيما يتعلق بالكتب، قراءة خواطر قارئ احتضن السطور بعينيه قبلي، وخط خواطره بيده على هامش كتاب. فلا أنسى تلك الارتجافة الرقيقة التي بعثها في قلبي قراءة ما دونه جد زوجي على هامش كتاب تعود ملكيته للجد "رحمه الله" والذي لم تتسنى لي رؤيته سوى في الصور العائلية، فكأن علاقة روحية نشأت بيني وبينه تخطت حواجز الزمان. وقد اعتدت أنا أيضا أن أخط بين الحين والآخر خواطري على هامش كتبي. بالإمكان أن تدون خواطرك في جهاز القاريء الإلكتروني أيضا، ولكني كلما حاولت تسجيل خاطر وجدتني عاجزة عن الكتابة، وكأنني لا أستطيع الكتابة بتلك الحروف الآلية المنمقة داخل ذلك المستطيل الهندسي غير الحميم. علما بأني تأقلمت بسرعة وبسهولة على الكتابة باستخدام لوحة المفاتيح ولم أجد نفورا منها، وإن كنت افتقد في بعض الأحيان الكتابة بخط اليد.

وكما أوحشني ملمس الكتب الورقية ورائحتها وحميمية تدوين خواطر بخط يدي على هوامشها، أوحشني الذهاب إلى المكتبة العامة أو محال بيع الكتب. ابتهج لرؤية الكتب المرصوصة بعناية فوق الأرفف وفقا لأرقام وأحرف تحدد أنواعها ومؤلفيها، كل كتاب مميز بغلافه وتصميمه وحجمه ومحتواه بالطبع. بالنسبة لي يختلف النظر إلى الكتب الموضوعة على الأرفف الخشبية كثيرا عن النظر إليها وهي على تلك الارفف الإلكترونية، تبدو لي الكتب على الأرفف الواقعية، إن جاز التعبير، مهيبة وساحرة في تراصها وعددها، على عكس الكتب المسطحة على تلك الأرفف الإفتراضية التي لا تثير بداخلي أية مشاعر، ويبقى بيني وبين تلك الكتب الإلكترونية علاقة أشبه بعلاقات العمل الجافة.  كما يروق لي التطلع إلى الأدوات المكتبية، التجارة التكميلية لتجارة الكتب، فأسعد لرؤية الأقلام والكراسات والأكواب والبطاقات وحافظات الأوراق وغيرها.

كان شغفي بالكتب وعالمها وراء قراري بالعودة إلى الدراسة مجددا في تخصص جديد، وإن كان لا يختلف كلية عن تخصصي الرئيسي في وسائل الاتصال، وهو تخصص المعلومات وعلوم المكتبات، وتحديدا مكتبات المدارس. كما كان شغفي ذاك وراء انضمامي لفريق المتطوعين بمكتبة مدرسة ابنتي الإبتدائية هذا العام، حيث دار بيني وبين أخصائية الإعلام والمكتبات المدرسية -المسمى الجديد لوظيفة أمين/أمينة المكتبة بالولايات المتحدة- حوار أزعجني كثيرا، فقد أشارت إلى استشراف يرى أن المكتبات  في شكلها التقليدي ستختفي من الولايات المتحدة تماما في غضون عشرين عاما لتحل محلها المكتبات الافتراضية. قلت لها: ولكنه أمر محزن؛ فأجابتني: أنا وانت حتما سنفتقد الشكل التقليدي للكتب والمكتبات لأننا اعتدنا عليه؛ ولكن هناك أجيالا ستنشأ على وجود الكتاب الالكتروني وسيكون نظام المكتبات الإفتراضية مألوفا لها وأكثر سهولة؛ حيث يمكن لأكثر من فرد الاطلاع على نفس الكتاب في وقت واحد؛ تخيلى مدى سرعة انتقال الكتب؛ والوقت والمجهود الذي يوفره ذلك الأمر. سرت قشعريرة في جسدي وتذكرت مشاهد من أفلام الخيال العلمي على شاكلة The minority report حيث تتحدد هوية البشر من بصمة العين عند دخولهم مراكز التسوق التي يحدثك فيها بائعون افتراضيون وحيث تسود شاشات الكمبيوتر ذات النظم المجسمة Holograms الحياة من حولك، وتسير السيارات في خطوط تحتل السماء فوقك، قطع تلك الصور الذهنية التي اجتاحت عقلي دبيب الأقدام الصغيرة لتلميذات وتلاميذ فصل ابنتي من الصف الأول الابتدائي وهم يدخلون المكتبة في حرص ورهبة والتماعة في عيونهم لا يمكن إلا أن تلحظها. تحلق الأطفال حول أمينة المكتبة لتقرأ عليهم قصة، حيث تستهل حصة المكتبة في العادة بقراءة قصة يعقبها مناقشة سريعة لموضوعها ونوعها الأدبي ثم يترك الأطفال يتجولون بحرية في أرجاء المكتبة لاختيار كتب للاستعارة، ليبدأ دوري بعد ذلك في مساعدتهم على البحث عن الكتب التي يريدون استعارتها، حيث يدور بيني وبينهم حوارات حول قصصهم المفضلة والأشياء التي يحبون القراءة عنها. أفكر لحظتها في العزلة التي ستفرضها علينا تلك المكتبات الافتراضية المزمع سيادتها في المستقبل القريب.. ستتحول المكتبة وكتبها المهيبة المتراصة إلى غرفة صغيرة ربما تضم جهاز كمبيوتر واحد يقوم اخصائي المكتبة من خلاله بالإشراف على موقع المكتبة الإلكتروني.. لا جلال روحي..لا حديث دافيء..لا التماعة في العيون..لا رائحة.


Sunday, October 14, 2012

العيش في حلم أبد الدهر


Painting by Swiss artist Etienne Delessert
لطالما اقتحمتني تلك اللوحة على بساطتها تصور غلاما يجلس مسترخيا على ظهر بجعة تسبح في نهر، يبدو الغلام مستغرقا في قراءة كتاب مرتديا تلك القبعة العجيبة لرأس حيوان أسطوري والقمر يضوي في السماء. أغبط ذلك الغلام الذي نسج عالمه الخاص بعيدا عن أي صخب، وأتخيله ساحرا صغيرا يحول ما يقرأه إلى حقيقة أشبه بحلم يعيش فيه أبد الدهر.

Monday, October 1, 2012

ماما..هلا هدأت قليلا؟



ترفض نور الامتثال بهدوء إلى جدولي الزمني الذي أضعه لتنظيم أنشطة ومهام اليوم..تعبرعن رفضها بطرق شتى..تغضب حينا عاقدة حاجبيها ومفصحة عن ما بداخلها من رفض بكلمات تخرج من فمها متلاحقة كطلاقات المدفع " لا أحب كل شىء بسرعة "، وتتباطأ عمدا في حركتها حينا أخرعندما أنبهها في المساء باقتراب وقت النوم أو في الصباح باقتراب رنين جرس المدرسة، وفي أحيان أخرى تبدأ معي جدلا عن الحكمة من الذهاب باكرا إلى المدرسة فهي تحب أن تلعب قليلا في الصباح أو أن تكمل القصة التى بدأت فى تصفح أوراقها بالأمس. تريد نور وقتا خاصا بها..لا تريد روتينا يوميا سريعا.. تريد أياما بلا اندفاع.. بلا ضغط.. بلا صخب، وكأنها تدافع عن زمنها الطفولي ضد زمن الكبار الذي أفرضه عليها..ألوم زمني السريع وتتأرجح ثقتي في ذاتي..فأنا لا أعلم حقا أيًا منا على صواب..أمضيت نصف عمري أركض لاهثة خوفا من الوقت.. ومازال ينهكني الركض..تقف نور تتأملني للحظات وأنا أقوم بحركات مكوكية..أنتهي من ترجمة الفقرة الأخيرة من المقال الذي ينبغي تسليمه غدا..أعيد ترتيب الطاولة سريعا..أجري مكاملة هاتفية لتأكيد موعد صباحي..أتذكر أن علي وضع الملابس في المجفف فأذهب مسرعة لوضعها..تأتيني خاطرة فأبحث عن دفتري لتدوين الفكرة قبل أن تهرب..أفتح الثلاجة لأقوم بحصر الأشياء التي ينبغي شراؤها في الغد.. تباغتني نور قائلة: ماما هلا توقفت؟ هلا هدأت قليلا؟  تعالي لوني معي في كتاب التلوين! انظر إلى ساعة يدي وأخبرها بأن موعد النوم قد حان..تستعطفني صغيرتي قائلة: "أرجوكي لوني معايا شوية".."إنتي على طول على طول بتجري"..افكر للحظات..اخلع عني ساعة اليد..وأبدأ في التلوين.

نور حياتي وملهمتي الصغيرة نور..ستمضي بنا الأيام كعادتها سريعا وسنتبادل الأدوار..ستركضين سريعا في كل حدب وصوب..تصارعين الأيام وتصارعك..وربما لن يكون بإستطاعتي ملاحقتك..وسأطلب منك مستجدية أن تتوقفي وتهدأي قليلا ربما لنشرب معا كوبا من الكاكاو الساخن الذي تحبينه كثيرا لتحكي لي عن ما يؤرقك ويشغل بالك..ولكم آمل أن تُلبي ساعتها رجائي..وأن نتحدث معا حتى يسرقنا الوقت.

Sunday, September 30, 2012

ثقافة التطوع

Image from http://mazhavaifoundation.com/Gallery.html

من بين الأمور التي جذبت انتباهي في الولايات المتحدة فكر التطوع وأهميته في المجتمع والذي بدا لدهشتي فكرا متأصلا في الثقافة الأمريكية. فالصورة الذهنية المعتادة التي نرسمها عن أمريكا أنها دولة رأسمالية قاسية لا مجال للتعاضد والرحمة فيها، أو بالأحرى مجتمعات تعاقدية، كما أطلق عليها الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله وذلك مقارنة بمجتمعاتنا التراحمية، إلا أنني أجد الآن ذلك الوصف غير منصف. فمثلما اعتاد أهل الخير عندنا في شهر رمضان من كل عام على تدبير احتياجات الفقراء من الطعام بما يعرف بشنطة رمضان التي توزع في مختلف أحياء مصر الفقيرة، اعتاد أهل الخير في أمريكا أيضا في موسم الاحتفال بأعياد الكريسماس من كل عام على تدبير احتياجات الفقراء من الطعام فيما يعرف بسلال عيد الميلاد. فأهل الخير تجدهم عندنا وعندهم ولايهم اختلاف اللون والعرق والدين. 


بدا لي أن التطوع وخدمة المجتمع فكرة تغرس في ثقافة الأفراد منذ الصغر وتستمر معهم بمرور سنوات العمر وذلك بالرغم من كونه مجتمعا يدعم الفردية، وهو أمر احترمته كثيرا، فالتجربة والمسئولية الفردية أساسية هنا ولكنها ليست شاردة عن مجتمعها تماما كما كنت أظن. في موسم الدراسة تجد في الصباح الباكر مجموعات من الأطفال تترواح أعمارهم بين التاسعة والحادية عشرة (يُسمون بأطفال الدورية) يرتدون أحزمة فسفورية اللون ويجبون شوارع الضواحي المحيطة بالمدرسة وبصحبتهم أطفال أصغر في العمر يوفرون لهم الحماية ويساعدونهم على عبور الشوارع حتى يصلون إلى المدرسة بأمان. ومجموعات أخرى توجد داخل ردهات المدرسة الكثيرة وحول أبوابها بصحبة المدرسين لتأمين وتوجيه الأطفال الأصغر سنا قدر الإمكان، خاصة أطفال الروضة والصف الأول والثاني الإبتدائي، الذين يصعب عليهم في بداية العام الدراسي حفظ الردهات المؤدية إلى فصولهم. بل توجد مجموعات من هؤلاء الأطفال لتنظيم دخول حافلات المدرسة إلى موقفها ومنع دخول سيارات آخرى عن طريق الخطأ إلى موقف تلك الحافلات. وفي مطعم المدرسة تقسم أعمال التنظيف على الأطفال منذ الصف الأول الابتدائي بشكل دوري. بعد انقضاء وقت الغذاء يتقاسم الأطفال وفقا لجدول محدد أعمال مسح الطاولات وكنس الأرضيات حولها (تشتكي ابنتي التي تدرس في الصف الأول الابتدائي هذا العام، والتي تأنف بشدة، من أنها لا تحب تنظيف الطاولات لأنها تكون متسخة جدا، اشفق عليها ولكنني أيضا بشقاوة أم أفرح فيها وأجدها فرصة ليشتد عودها).


في المكتبة العامة تعجبني تلك السيدة ذات الشعر الأبيض القصير، الذي يرتسم حول وجهها كهالة نور، والتي تأتي متطوعة في يوم ثابت أسبوعيا لتقرأ للأطفال من رواد المكتبة قصصا. ويلفت انتباهي في لوحة أخبار المكتبة إعلان عن طلب متطوعين لتوصيل الكتب إلى كبار السن في البيوت يشير إلى مميزات التطوع في المكتبة العامة بالنسبة للراغبين في العمل في مجال المعلومات والمكتبات، فالتطوع للعمل في المكتبة يمكن أن يؤهلهم للحصول على منح دراسية من رابطة المكتبات الأمريكية. وعلمت فيما بعد أن العمل التطوعي يدعم في العادة من قوة السيرة الذاتية للمتقدم لأي عمل. وتذكرت أن نجاحي في الحصول على المنحة الدولية لمؤسسة فورد الأمريكية وأنا بعد أعيش بالقاهرة كان من بين أسبابه عملي التطوعي في مصر آنذاك.

للعام الثاني أقوم بالتطوع في مدرسة ابنتي الابتدائية بالمشاركة مع عدد من الآمهات والأباء. تعتمد المدارس  العامة هنا بشكل كبير على المتطوعين الذين يمدون يد العون للمعلمات والمعلمين داخل الفصول وفي الأنشطة المدرسية المختلفة  تطوعت العام الماضي في فصل ابنتي في حصة الفن أو الرسم. كنت أساعد مدرسة الفنون في الحفاظ على الانضباط وتوجيه الأطفال وتشجيعهم ومساعدتهم في إعادة ترتيب حجرة الرسم بعد انتهاء الحصة. كما كنت اقرأ بين الحين والآخر قصة لنور ورفاقها في الفصل، ولكم أحببت تحلقهم حولي ورؤية وجوههم الصغيرة يرتسم عليها الانفعال بأحداث القصة وتعليقاتهم الذكية وعيونهم اللامعة. كما أحببت تحيتهم لي والابتسامة مرتسمة على وجوههم تمنحني دفئا وحبا كلما قابلوني مصادفة في ردهات المدرسة أو في وقت الانصراف قائلين: Hi Nour’s mom أو   Bye Nour’s mom أهلا أم نور أو مع السلامة أم نور، لصعوبة تذكرهم لاسمي لوقعه المختلف عن ما اعتادوا عليه من الأسماء، فأصبحت أُكنى بينهم بأم نور. وفي نهاية العام الدراسي ارسلت معلمات نور هدية رمزية لي مصحوبة ببطاقة شكر رقيقة لأنني مددت يد المساعدة. أما هذا العام فاقوم بالتطوع في مكتبة المدرسة (وتلك قصة أخرى).

 وفي جلسة توجيه المتطوعين الجدد بمكتبة مدرسة ابنتي التي حضرتها هذا العام عددت أمينة المكتبة من مزايا التطوع التي من بينها التعرف على أناس جدد بخبراتهم وقصص حياتهم المختلفة "فمن الجيد دائما أن تتعرف على أناس جدد" على حد قولها.. وقد صدقت في ذلك.. فهناك ميزة أضافها لي العمل التطوعي في بلد غريب..فقد أتاح لي التطوع الأقتراب من الناس مما جعلني أرى صورا إنسانية بعيدة عن تحليلات المفكرين وحروب السياسيين وما تبثه في عقولنا شاشات التلفزة ..ليس بالضرورة أن كل ما أراه وأدركه حسن ولكنني على الأقل أرى الآن الصورة بألوانها المختلفة.. فالحياة من حولنا تقع في تلك المساحة الوسطى بين الأبيض والأسود وبها قطاع عريض من الألوان..وفي تلك المساحة تقع يومياتي عن أمريكا.