Sunday, November 20, 2011

المصفوفة


Image from http://indolinkenglish.wordpress.com/

"المصفوفة تحيط بنا أينما كنا. حتى فى هذه اللحظة، فى هذه الغرفة، يمكنك أن تراها و أنت تنظر من شباكك، وأنت تشغل تليفزيونك، بإمكانك أن تشعر بها و أنت ذاهب إلى عملك، و أنت ذاهب إلى الكنيسة، و أنت تدفع ضرائبك. إنها العالم الذى وضع قبالة عينيك ليحجب عنك الحقيقة" مورفيوس لنيو من فيلم المصفوفة. *
1
صراع دائم بين الإرادة و الهيكل... هكذا يلخص علماء الاجتماع حياتنا و علاقاتنا المتعددة و المعقدة... يقيد الهيكل الاجتماعى الإرادة الإنسانية بينما تسعى تلك الإرادة إلى تغييره.

أمضيت الأسبوع الأول من عملى الجديد داخل أروقة مؤسسة دولية يأتى اسمها دوما فى الأخبار مقترنا بالفقر وإثقال كاهل الدول النامية بالديون، مناقضا للهدف التنموى الذى أنشئت من أجله، و أعنى بها مجموعة البنك الدولى. فقد اتاحت لى زمالة برنامج الشرق الأوسط و شمال أفريقيا بمركز معلومات البنك، وهو منظمة غير حكومية وغير هادفة للربح مهمتها مراقبة أنشطة وسياسات عمل البنك الدولى، حضور الاجتماعات السنوية للبنك الدولى و صندوق النقد الدولى، وهى الاجتماعات التى يحرص المركز على حضورها مع شركائه من ممثلى المجتمع المدنى فى البلدان المتأثرة بأنشطة البنك. تمثلت لى ضخامة مبانى البنك واتساع ردهاته و تعدد قاعاته التى تشهد رسم أصحاب الياقات البيضاء للسياسات الاقتصادية العالمية و كأنها انعكاس لحجم تأثيره فى حياتنا.

حضرت مجموعة من الجلسات و المداولات التى عقدت على هامش الاجتماعات السنوية للبنك و تناولت قطاعا عريضا من القضايا المتشابكة بدءا من الدعم الخارجى و فساد البرلمانيين ووصولا إلى قضايا النوع و البطالة و تغير المناخ. و كان لربيع الثورات العربية  نصيب كبير من تلك المناقشات. فقد جاءت الثورات العربية صادمة ليس للقادة العرب فحسب، الذين حسبما يتندر الآن اكتشفوا مطلع هذا العام أن لديهم شعوبا تحمل آمالا و رغبات، و إنما جاءت صادمة للعالم ومؤسساته المختلفة و من بينها البنك الدولى كونه الممول و المحرك الرئيسى لمشروعات التنمية فى العالم بهدف القضاء على الفقر و الظلم الاجتماعى، و الذى أظهرت الثورات العربية والاضطرابات العالمية الأخيرة خلل المنظومة الاقتصادية التى يعمل فى ظلها إضافة إلى الأزمات التى يخلقها نظام هيكلته وأسلوب عمله أو ما يعرف بنهج موافقته على القروض، الذى يهتم بتحريك الأموال على حساب ضمان حسن استخدام و إدارة القروض، والذى أتاح الفرصة أمام حكومات قمعية لسرقة أموال شعوبها والتلاعب بمستقبل هذه الشعوب وأمنها.

وأول ما تعلمته أن البنك يعمل من خلال هكيل تنظيمى معقد، أو إن جاز التعبير مصفوفة، ومصفوفة البنك تعمل من خلال مصفوفة دولية أعقد لها مصالحها وقوانينها الخاصة. إن أردت التمرد على قواعد تلك المصفوفة بهدف تغييرها أو تعديلها فعليك أن تعرف القوانين و المصالح و صراعات القوى التى تحكمها ولغة الخطاب التى تسير عملها. و قد أدخلت على مدار السنوات تعديلات على الهكيل التنظيمى للبنك كان وراءها دفع من المجتمع المدنى العالمى، فأصبح للبنك هيئة للتفتيش بإمكان المجتمعات المحلية المتضررة من مشروعات البنك رفع تظلم لديها و قد سبق أن أوقفت تلك الهيئة مشروعات ثبت أنها تضر بالبيئة والسكان المحليين. كما أصبح للبنك سياسات وقائية من شأنها حماية البيئة وحقوق المجتمعات المحلية، و إن كانت هناك مشكلات عدة تتعلق بعدم وجود مراقبة حثيثة لمدى تطبيق تلك السياسات على أرض الواقع. كما دفعت مؤسسات المجتمع المدنى البنك الدولى إلى تبنى سياسة الإفصاح عن المعلومات و التى تتيح للناس الحصول على وثائق مشروعات البنك فى البلدان المختلفة، و إن كان لايزال يتعين تدريب المجتمع المدنى العالمى الصاعد بقوة على كيفية الاستفادة من تلك المعلومات.

وفقا لتقرير صادر عن مركز معلومات البنك لعام 2007 تعد مصر الدولة الأكثر اقتراضا من المؤسسات المالية الدولية فى منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا. وللبنك الدولى ثمانية وعشرون مشروعا فى مصر، تم الاتفاق علي قروضها خلال فترة حكم مبارك. وتصل قروض بعض هذه المشروعات إلى 600 مليون دولار، وفى معظمها مشروعات لتحسين البنية التحتية والتخطيط العمرانى وتوليد الكهرباء. و هى مشروعات عملاقة تشكل بطبيعتها المعقدة والطويلة الأمد أرضا خصبة للتلاعب وإحداث المخالفات. و انطلقت من مصر مؤخرا حملة لمراجعة ديون مصر التى تقدر بحوالى 35 مليار دولار ودراسة الظروف المحيطة بالاستدانة بهدف إلغاءها باعتبارها ديون كريهة أى تم الاتفاق عليها من قبل نظام لا يمثل شعبه و لا يعمل على مصلحته وعلى علم من المقرض (مثلما حدث فى الإكوادور من قبل). ولكن الأمر ليس بهذه السهولة فالقروض مرتبطة بأموال المودعين و دافعى الضرائب فى بلدان أخرى، وفى ذلك رسالة واضحة إلى المقرضين بأن عدم الاهتمام بمتابعة حسن استخدام و إدارة القروض وتسهيل حصول الحكومات القمعية عليها لأغراض سياسية و التعامل مع الشعوب بمنطق تجارى نفعى لا يقيم وزنا لحقوق الشعوب ومقدراتها من شأنه أن يحدث أضرارا غير محسوبة. 

لقد أحدثت الثورات العربية و ما تبعها من حركات مثل حركة " احتل والستريت" ارتباكا فى مصفوفة البنك والنظام الاقتصادى والسياسى الدولى الذى بات مدركا لوجود قوة جديدة تطالب بالمشاركة فى صنع السياسات و الشفافية و الحق فى مساءلة الحكومات و الأنظمة، وهى قوة الشعوب. وستحدد الأيام القادمة إلى صالح من سيحسم هذا الصراع المتصاعد بين إرادة الشعوب والمصفوفة.

و للمصفوفة تأملات أخرى...















* فى فيلم المصفوفة تستخدم الآلات البشر كوقود لإمدادها بالطاقة اللازمة لبقاءها، ناسجة حولهم حقيقة زائفة عن حياتهم، فهم يعيشون حياة افتراضية وهمية داخل مصفوفة محكمة المراقبة، لكن البشر يفيقون الواحد تلو الأخر ويحاربون المصفوفة.

Tuesday, July 5, 2011

منتصف الثلاثينات

لا أذكر متى تحديدا فقدت الاهتمام بعيد ميلادى .. يحتفل بى الأهل دون اهتمام حقيقى منى سوى التقدير أنهم يريدون إسعادى فى هذا اليوم . تذكرت و أنا أنظر فى المرآة هذا الصباح  قول الشاعرة سعاد الصباح " أريد أن استرجع  العمر الذى خبأته فى المرايا ".. حتما اختلفت الصورة المنعكسة أمامى قليلا و تناثرت شعيرات بيضاء هنا وهناك .. لكن هل أريد حقا استرداد هذا العمر؟ العشرون .. عيون لامعة .. جرأة فى القلب .. شغف بالحياة .. خطايا الغرور و نقص الخبرة .. دهشة الاكتشافات و بداية الانكسارات. ثمة شعور راودنى بالرغبة  فى العودة إلى العشرين بخبرة ووعى منتصف الثلاثينات .. كم من مسارات للتصحيح .. كم من قرارت للتبديل. لكن المرأة المنعكسة صورتها فى المرآة أمامى هى نتاج لهذا العمر الذى مضى بحلوه و مره ، بألمعيته و حماقته ، بنجاحاته و إخفاقاته . إذا ما مضى بنا العمر رتيبا و فضيلا  لأصبحنا شخوصا باهته الملامح ، ذابلة الروح.   
احتفل هذا العام بكل الاخفاقات التى علمتنى الجلد و الصبر والأمل فى المحاولة من جديد .. احتقل بكل حماقاتى  التى علمتنى التأنى و التدبر و التفكر .. احتفل بكل الأخطاء التى علمتنى الفضيلة .. احتفل بكل الصراعات و القيود التى علمتنى البحث و حثتنى على الفهم .. احتفل بكل من رافقنى الطريق و كشف لى خبايا النفس البشرية المحبة و الكارهة و المرهفة و القاسية و الناقمة و الراضية و الجحودة و الشاكرة.  احتفل هذا العام بأحلى العمر .. منتصف الثلاثينات.

Image from writerscafe.org




Tuesday, June 14, 2011

صورة فى خيال

مصرالتى يطاردنى طيفها أينما ذهبت أسافر إليها فى غضون أيام ، بعد مرور عام على زيارتى الأخيرة و بعد إنقضاء عامين من الغربة. يسبقنى شوق لتنفس هواء مختلف هذه المرة ، و يرتجف قلبى خوفا من أن تكون مصر التى أحلم بها مجرد صورة فى خيال ..

Image from globalpost.com

لو لم أكن مصريا

 كتبت هذه الخاطرة فى مايو 2009 بعد مرور ثلاثة أشهر تقريبا على وصولى إلى الولايات المتحدة.. ومازالت مصر الهم الذى لا ينقطع  و مازال يتملكنى شعور بالعجز تجاهها . يعقب الخاطرة تأملات حديثة عن الثورة ..
"لو لم أكن مصريا لوددتُ أن أكون مصريا " تذكرت على التو هذا القول المأثور للمناضل المصرى "مصطفى كامل" الذى كنا ندرس قوله على أنه مبالغة مقبولة ، عندما سألنى شاب أمريكى من أصل أفغانى يحمل من العمر سبعة عشر ربيعاً " لو لم تكونى مصرية أى مكان تتخذينه وطناً أمريكا أم مصر؟" فى محاولة أخيرة منه - حسبما تراءى لى- لفهم و صياغة معنى واضح لمفهوم الوطن الذى لا يعرف عنه سوى ما يحكيه الأهل و ما تتناقله وسائل الاتصال المختلفة . بدا لى أننى أثرت فضول ذلك الشاب " أحمد" بحديثى عن افتقادى لوطنى و أهلى و أصدقائى فأمطرنى بوابل من الأسئلة بدءا من ما الذى أسرنى فى أمريكا؟ و ما الذى افتقده فى مصر؟ و أى البلدين أفضل من وجهه نظرى؟ إلى ما الذى يربطنا بالوطن .. الأرض أم الأهل؟ هو يرغب فى زيارة وطنه الأم أفغانستان يوما ما و لكنه يعتقد أنه سيشعر بغربة شديدة هناك لأن أهله كلهم تقربيا يعيشون بأمريكا ... وطنه الذى اجتاح وطنه الأم كما قال لى ساخرا. فاجأنى أحمد بسؤاله الأخير و لم تكن المفاجأة فى السؤال ذاته بل فى عدم قدرتى على الإجابة . قلت له إنه سؤال يستدعى التفكير ، فبدا عليه القليل من الإحباط .  
ربما كان يبحث فى إجابتى عن بعض السلوى لحيرة شاب فى مقتبل العمر موزع الروح بين ثقافتين و وطنين . هو يرى أن الوطن يتلخص فى الأهل و الأصدقاء و ما يوفره لك هذا الوطن من أمن و رخاء، و لكن أسئلته تشير إلى عدم اقتناعه الكامل بتلك الرؤية. ربما كان يشعر بمسئولية ما تجاه وطنه الأم و يريد طرحا جديدا لرؤيته التى مازالت فى طور التشكل.
تركنى ذلك الشاب فى حيرة من أمرى. لماذا لم أتمكن من الإجابة على سؤاله؟ أهو الخوف من أن تكون إجابتى أمريكا؟ أم لأننى مثله لازلت أبحث عن معنى للوطن؟ لا أنكر إعجابى بأشياء عدة هنا، لعل أبرزها وجود نظام واضح و محدد يتحرك الجميع فى إطاره. و لا أخفى شدة افتقادى للأهل و الأصدقاء ، حتى أننى فى بعض الأوقات أشعر أنه لا ينقصنى سوى وجودهم إلى جوراى ، الأمر الذى قد يجعل من حياتى هنا مثالية. و لا أنكر أنه فى الفترة الأخيرة تملكتنى رغبة فى الابتعاد حتى أتمكن من الاقتراب من جديد..
و لكن تبقى حقيقة واحدة.. لا يختار أحد منا نشأته ووطنه.. مصر هى عشقى و ألمى وهمى الذى لا ينقطع.. هى انتباهاتى واكتشافاتى الأولى  ..هى تمردى على ما هو سائد فيها..هى عجزى عن مواجهه قتلتها و نهابها و فاسديها .. هى هروبى من أحزان ساكنيها...هى خوفى من نارها الدفينة تحت الرماد.
مصر مرور عشوائى و ربيع عاصف..تطرف و تسامح ..تلقائية وتربص.. مصر هى قدرى الذى أحمله معى أينما ذهبت.. فى موسيقى "عمر خيرت" و أغانى" سيد درويش" و " محمد منير" التى تتردد دوماً فى أركان شقتى هنا..فى رباعيات "جاهين" التى تحتل موقع الصدارة على أرفف مكتبتى.. فى لوحة لعظمائها معلقة على حائطى..فى دفتر أوراقى الذى يضم براءة و سذاجة طفولتى.
مصر مسافات قطعتها فى صباى مع صديقات لى جمعت خطواتنا أحلام مقتبل العمر ما تحقق منها و ما لم يتحقق..مصر صورة شعرية لشوقى ، للنيل النجاشى و قلوع المراكب التى تشبه أجنحة الحمام.. نزهة مع والدى فى القلعة و الخيمية و تحت الربع و سوق السلاح.. جولة فى مكتبات وسط البلد.. أمسيات الخميس بنادى المعادى.. ليلة رمضانية فى سيدنا الحسين.. آيات قرآنية تتلوها والدتى بصوتها الحنون لتنير لى الطريق..مصرهى أملى الدائم الذى لا أفقده و لا أعرف لما.
أروى الحكايات و أطلق النكات و أضحك و أبكى بطريقة و نكهة مصرية...مصر هى أنا ..هى بحثى الدائم عنى وسط صخبها و نتاقضاتها .. و سط أحزانها و أحلامها.
  و من هنا يفقد سؤال ذلك الشاب معناه بالنسبة إلىِ ، و يصبح قول "مصطفى كامل" منطقيا و حتميا. فلو لم أكن مصرية لوددت أن أكون مصرية .. لأننى ببساطة لا أعرف إلا أن أكون .. مصرية.
2011
 ثارت مصر و لم أكن هناك .. ثارت مصر و قدر لى أن أشهد ثورتها عبر شاشات التلفزة و أنا عاجزة عن فعل أى شىء .. قدر لى أن أشهد فى غربتى الثورة تعم أرجاء أرضها  التى تحفظ وقع خطواتى و أحلامى . ثارت مصر و لم أكن هناك بين أصدقائى فى الميدان لأستمد منهم الشجاعة و القدرة على الحلم من جديد. ثارت مصر .. و لم أكن هناك.
غيرة .. خجل ..خوف .. شك ..غضب.. وأمل .. تحركت تلك المشاعر و اختلطت داخلى .. غيرة من هؤلاء الشباب الذين استطاعوا إشعال جذوة الحلم .. غيرة من كل من كان فى الميدان .. خجل من ذاتى لأننى لم أملك شجاعة هؤلاء فى فتوة شبابى لأخرج و أفصح و أعلن صارخة عن كل ما يؤلمنى و يقهرنى .. خجل لأن لم يكن باستطاعتى أن أكون هناك ..خوف على أهلى و أصدقائى و أحبائى .. خوف من الفشل.. شك تملكنى تجاه نفسى و سؤال عن إذا ما كانت مبادئى و أفكارى ستثبت و تتغلب على خوفى بذهابى إلى الميدان إذا ما كنت هناك .. غضب من كل من وقف ضد الثوار جهلا أو خوفا أو اعتيادا على حال مؤسف.. أمل فى مصر أخرى جميلة و حرة و أبية.. و أمل فى التخلص من شعور بالعجز يتملكنى كلما تردد اسم مصر.
 

Monday, May 30, 2011

ثوب برتقالى و حلم ملون


منذ استلامنا الدعوة لحضور حفل عيد ميلاد أحد أصدقائها ، أخذت ابنتى نور تفكر و ترتب و تسأل عن مدى اقترابنا من اليوم الموعود. اختارت نور بعناية ثوبها البرتقالى " زى لون الشمس" و حذائها الأبيض و " توكة " شعرها التى لم تنسى أن تكون ملائمة للون ثوبها .و ظلت تحكى عن الألعاب التى ستلعبها ، و تخمن من سيأتى من أصدقائها إلى الحفل ، و تحلم بالبالونات و  التورتة الكبيرة الملونة.
و عندما جاء اليوم المقرر للذهاب ، حدث ما لم يكن فى الحسبان. اجتمعت الأقدار على عدم وصولنا إلى مكان الحفل. كان الأمر غريبا حقا ، مسلك خاطىء ، أعقبه حادث سير كبير أصاب حركة المرور بشلل تام ، ثم إشارة معطلة ، و أخيرا  نفاد الوقود. لآخر لحظة لم تصدق نور أننا لن نستطيع الذهاب للحفل الذى انتظرته أسبوعا كاملا بفارغ الصبر و ارتدت من أجله فستانها المفضل. بكت نور بشدة و اختنق صوتها  وسط دموعها و هى تعلن عن رفضها للوضع القائم و رغبتها فى الذهاب إلى الحفل الآن . ضممتها إلى صدرى و حاولت تهدئتها، رفضت فى البداية ثم استسلمت و بدأت فى الاستماع إلىّ ، شرحت لها ما حدث مرة ثانية و أتفقنا على أن نذهب إلى مكان آخر أعرف أنها تحبه ، و كعادتها اختتمت نور حديثها معى بأمل فى تحقق حلمها الطفولى البسيط فى وقت آخر " حنروح عيد الميلاد فى مرة تانية .. مش كده ؟ ".

حبيبتى .. يعجبنى تمسكك بتحقق أحلامك ، إن لم يكن اليوم فربما غدا . صغيرتى ستأتى أيام  ترتدين فيها للحياة أبهى ثيابك و تتزينين بآمالك و انطلاقاتك ، لكن أقدار الحياة لا تأبه أحيانا بالزينة و الأحلام الملونة. إذا حال طريق الحياة بينك و بين حلم لك ، و إذا لم ينجح مسعاكِ فى الوصول إلى أمر كنت ترغبين فيه ، و إذا ما جاءت الأيام بغير توقعاتك ، أريدك أن تتذكرى أنه لا ضرر من الضيق و الحزن و حتى البكاء ،  تلك مشاعر لا يمكن أن نمنع أنفسنا من الإحساس بها ، مساحة من الوقت لا تطول و لا تلقى بك فى دوامتها. أريدك أن تستدعى تلك الروح الصغيرة البريئة القادرة على المواصلة و الحلم من جديد. أريدك أن تعرفى أنها بداخلك مهما كبرت و أنها ستجد لك مسلكا ، بإذن الله ، مهما كان طريق الحياة صادما و و عرا .







 

Saturday, May 14, 2011

أبناء رفاعة

اللوحة للفنان التشكيلى المصرى صلاح عنانى
صدر كتاب أبناء رفاعة  .. الثقافة و الحرية  للكاتب و الأديب بهاء طاهر فى طبعته الأولى عام 1993 أى منذ ثماني عشرة سنة . لم أقرأ الكتاب عند صدوره ، لكنى سمعت عنه و بدأت فى قراءته –  ضمن خطة للقراءة فى عدة موضوعات -  مع بداية بحثى الشخصى منذ بضع سنوات عن إجابات لأسئلة عن  الدين  و التفكير والتكفير و من هو المثقف و ما دوره و العلاقة بالآخر و أخيرا و ليس أخرا ذلك الموضوع الشائك المرأة.

 يقدم الكاتب بسرده التحليلى للتاريخ  دفاعا عن قادة التنوير فى مصر الذين تعرضوا لهجوم عنيف طال من سمعتهم وإيمانهم ، و شوهت أفكارهم من قبل تيارات تعتمد فى أسلوبها على إرهاب الفكر و الضمير، دون أى قدرة حقيقية على مواجهة الفكر بالفكر و تقديم مشروع نهضوى إنسانى يحمل فى طياته سماحة الإسلام و رسالته الفكرية العظيمة كالمشروع المصرى التنويرى الذى قادته أسماء مثل رفاعة الطهطاوى و على مبارك و عبد الله النديم والشيخ محمد عبده و قاسم أمين و الشيخ مصطفى عبد الرازق  و طه حسين و أحمد أمين و الشيخ أمين الخولى و غيرهم من مفكرى مصر العظام.

نبه بهاء طاهر إلى خطورة ما يحدث من تشويه لما حققه هؤلاء الرواد فى الحياة الثقافية و الاجتماعية بل و السياسية فى مصر  عام 1993 و بعد هذا التاريخ بحوالى تسع سنوات واجهنى أحد أقربائى - عند زيارته لى- برأيه أن مكتبتى الشخصية أنا و زوجى تحوى كتبا لأعداء الإسلام و تحديدا ( طه حسين و نجيب محفوظ ).  لم أفهم كيف من كتب (الوعد الحق) و (على هامش السيرة ) و (الشيخان) يصبح عدوا للإسلام ؟ و بالرغم من كل ما أثير حول نجيب محفوظ و روايته ( أولاد حارتنا )  فإن عملا (كأصداء السيرة الذاتية) لا يكتبه إلا رجلا زاهدا ..عابدا.. متصوفا. و تشهد مصر فى الفترات الأخيرة انتشارا ملحوظا للفكر السلفى فيصبح قاسم أمين عدو المرأة الأول لمطالبته بسفورها و خروجها للعمل. أظهر المشهد الاجتماعى و الثقافى المصرى خلال الثورة و بعدها مقدار الخلل الذى أحدثته سنوات حكم مبارك و من حكم قبله من العسكر فى الروح المصرية و مقدار ما خسرته من مكاسب حققتها بفضل هؤلاء الرواد . فعلى طريقة " مالك رقاب الأمم و ملجأ العرب و العجم  اللهم أدم ملكه و اجعل الدنيا بأسرها ملكه " التى ذكرها بهاء طاهر ليدلل على الصورة التى كان يخاطب بها و بنظر بها المصريون إلى حاكمهم العثمانى قبل حركة التنوير، و جدنا من يلقب مبارك بالأب الذى وجب طاعته و احترامه بل و التعاطف معه. ووجدنا من يستنكرعلى هؤلاء الشباب مطالبهم على غرار أن " أهل مصر لا يمكن أن يحكموا  أنفسهم بأنفسهم" و هى الفكرة التى كان يؤمن بها مؤرخ و مثقف مثل الجبرتى مما يدل على ثقافة العصر فترة الحكم العثمانى/المملوكى لمصر كما جاء بالكتاب .

نتذكر جميعا الحوار الشهير الذى درسناه فى كتب التاريخ بين الخديو توفيق و الثائر المصرى أحمد عرابى ، الذى يقول فيه الأول للثان
- لقد ورثت أنا ملك هذه البلاد عن آبائى و أجدادى و ما أنتم إلا عبيد إحساناتنا.
 فجاء رد عرابى مدويا : و الله الذى لا إله إلا هو لقد خلقنا الله أحرارا و لم يخلقنا تراثا و عقارا ، و الله إننا لن نورث و لن نستعبد بعد اليوم.
يرى طاهر أن هذه اللغة التى تختلف جذريا عن لغة " مالك رقاب الأمم " هى نتاج جهد  نوع آخر من المثقفين بشروا بالحرية و علموها لشعبهم فأينعت جهودهم ثمارا فى أقل من قرن واحد من الزمان. يرتكز تحليل الكاتب على أن تلك الجهود أثمرت لسببين رئيسيين: الأول ربط أفكار مثل الحرية و المواطنة والمساواة و نبذ السلطة الدينية بقيم التراث اللإسلامى فشعر الشعب أن هذه الأفكار و غيرها ماهى إلا امتداد لقيم متأصلة فى عقيدتهم. فلم يسقط الرافد الغربى – وهو مؤثر هام من مؤثرات التغيير الثقافى فى مصر – فى أرض جرداء على حد قول طاهر. فالرجل الذى تدين له مصر بالفضل الأكبر فى نهضتها التعليمية و الثقافية و هو رفاعة الطهطاوى كان ابنا من أبناء مؤسسة الأزهر العريقة و جاء التقاءه بالحضارة الغربية عندما سافر باعتباره مرشدا دينيا لطلاب بعثة محمد على إلى فرنسا. و يرى طاهر أن لهذا الامر دلالة هامة و هى أن هاجس الحفاظ على الهوية الثقافية  وعدم الذوبان فى الثقافة الغربية  كان حاضرا فى ذهن المؤسس الكبير للدولة المصرية الحديثة. و الأهم من ذلك برأيه أن الثقافة الغربية عندما قدمت إلى المصريين للمرة الأولى لم تكن نقلا أعمى ، لكنها قدمت لهم من خلال نفس قادرة على التحليل و النقد و البحث فى أوجه التشابه فى التراث مع العناصر الإيجابية فى الحضارة الغربية ، و فى مرحلة أخرى بالتفسير الجديد للتراث الذى تطلب جهدا آخر من رائد أزهرى آخر هو الإمام محمد عبده الذى يعده الكاتب الإسلامى الدكتور محمد عمارة "مجدد الدنيا بتجديد الدين" و رأس المائة الثالثة عشرة فى التاريخ الإسلامى.
  
و سأتوقف عند أمثلة ساقها الكاتب لبيان مقصده . استند الطهطاوى على التراث الدينى لإحياء مفهوم الوطن الغائب لقرون طويلة عند المصريين فبين لهم أن " حب الأوطان فضيلة جليلة .. و أن مصر أعز الأوطان لبنيها و هى مستحقة برها منهم بالسعى لبلوغ أمانيها و ذلك من ناحيتين : أنها أم لساكينها ، و بر الوالدين واجب عقلا و شرعا على كل إنسان ، و الثانية أنها ودوة بارة بهم ." كما بين لهم أن وحدة الوطن  تعنى وحدة أبنائه و المساواة بينهم أيا كان الدين الذى يعتنقونه " أن جميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن يجب على أعضاء الوطن فى حقوق بعضهم على بعض لما بينهم من أخوة الوطنية.."  و يشير طاهر إلى أن هذه المفاهيم تظل مفاهيم مجردة حتى يتخرج من المدارس – لا ننسى هنا دور الطهطاوى فى وضع سياسة التعليم المصرى فى الدولة الحديثة – عدد كاف من المتعلمين و المثقفين و حتى تظهر الصحف الوطنية و تتصاعد الأحداث لتصهر الوعى الوطنى و توجهه.

يسترسل الكاتب فى تحليله للأحداث التى أدت إلى انصهار هذا الوعى الجديد منها التحالف المركب من الغرب  و خلفاء محمد على الذين حكموا مصر على طريقة الدولة العثمانية ذات القناع الدينى ، الأمر الذى أدى إلى غرق مصر فى الديون و إهداء مصر إلى أوروبا قناة السويس التى مات الآلاف من أبنائها أثناء حفرها ، و صولا إلى تعيين وزراء أوربيين فى حكومة مصر بحجة ضمان الوفاء بالديون.  فى تلك الفترة ظهر الإمام محمد عبده ليستكمل ما بدأه الطهطاوى فى بعث مفاهيم الوطن و المواطنة و المساواة و الحرية و التى مهدت الطريق للثورة العرابية.  فقد كانت رؤية الإمام تأصيلا لمفهوم الدولة المدنية التى تحقق لمواطنيها المساواة و الأمن و الحرية . نفى الإمام " أن تكون فى الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة و الدعوة إلى الخير" كما أكد على أن الحاكم فى هذا المجتمع هو حاكم مدنى " واختياره و عزله أمران خاضعان لرأى البشر لا لحق يتمتع به هذا الحاكم بحكم الإيمان .. فأصل من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية و الإتيان عليها من أساسها .. لم يدع الإسلام لأحد بعد الله و رسوله سلطانا على عقيدة أحد ، و لا سيطرة على إيمانه ، على أن الرسول عليه الصلاة و السلام كان مبلغا و مذكرا ، لا مهيمنا و لا مسيطرا .. فليس فى الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه .. و لم يعرف المسلمون فى عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التى كانت للبابا عند الأمم المسيحية."

أما السبب الثانى لنجاح جهود قادة التنوير فى بعث مفاهيم جديدة فى الروح و العقلية المصرية أدت إلى احتضان الشعب لمفاهيم  الاستقلال عن الدولة العثمانية و أوروبا ، و المساواة فى الحقوق و الواجبات بين أبناء الوطن ، و الحكم النيابى الذى يقيد سلطة الحاكم و يقنن و يشرع الحقوق و الواجبات ، و المحاربة من أجل تحقيق هذه الافكار و التى تمثلت فى ثورة عرابى و ثورة 1919 فيما بعد ، هو نقل الأفكار من دائرة المثقفين و المتعلمين إلى مستوى الوعى الشعبى العام ، فكانت البداية بجهود خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم. أسس النديم صحيفة " التنكيت و التبكيت " واختار لتحريرها لغة أقرب إلى العامية ليشرح للناس بلغة بسيطة مخاطر التدخل الاوروبى فى مصر و معنى التمثيل النيابى . و كان إصدار الدستورمعركة أساسية  أثناء الثورة العرابية فلجأ النديم  إلى إسلوب الخطابة الذى كان بارعا فيه ، فأخذ يجوب أنحاء مصر يخطب فى القرى و المدن الصغيرة يتحدث إلى الناس و يشرح لهم بلغة لا تعقيد فيها العلاقة بين الدستور و بين  مشاكل  حياتهم اليومية. استغل النديم قدرته على الإقناع و جولاته فى مختلف أنحاء القطر المصرى ليجمع توقيعات الناس على المنشور الموحد الذى كتبه بنفسه للمطالبة بإنشاء البرلمان و العدالة الاجتماعية للفلاحين و الفقراء و حققت الثورة الشعبية النجاح الاقصى لها بإنشاء البرلمان  عام 1882 و هو أول برلمان منتخب فى المشرق العربى قام بإعلان أول دستور مصرى


يستكمل طاهر سرده لكفاح قادة التنوير فى إعادة الروح إلى الحياة الاجتماعية و الثقافية و السياسية فى مصر.  فيقدم سردا  تحليلا للدور الذى لعبه قاسم أمين ( الذى كان تلميذا فكريا للنديم و محمد عبده ) و كتاباته التى مهدت الطريق لتحرر المرأة و سفورها والتى على ما يبدو أنها لاتزال تثير جدلا موسعا فى حاضرنا. و كيف مهد كفاح هذا الجيل إلى ظهور جيل جديد من المثقفين فى سنوات الاحتلال البريطانى لمصر و هو جيل مصطفى كامل و سعد زغلول  فى السياسة ، و جيل شوقى و حافظ فى الشعر ، و سيد درويش فى الغناء،  الذى أيقظ الوعى الشعبى مرة أخرى فخرجت ثورة 1919 باتحاد الهلال مع الصليب و بخروج المرأة المصرية لأول مرة فى التظاهرات بجانب الرجل و لتنتزع مصر دستورا جديدا. بالكتاب أيضا سردا مطولا لمشروع عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين الفكرى و التعليمى الذى يحتاج إلى عرض خاص لأفكاره الملهمة و لتقديمه تحليلا و توضيحا منطقيا لموقف العميد من الثقافة الغربية .

إذن اثمرت جهود رواد التنوير لأن لأفكارهم جذورا ممتدة فى التراث و لأنهم كانوا بين الناس و كان معترف بهم كقادة طبيعيين للمجتمع على حد تعبير طاهر. و يطرح الكاتب أكثر من سؤال : " ما الذى حدث بحيث أصبحت الثقافة الجديدة التى غيرت وجه الحياة فى مصر فى موقف الدفاع عن النفس؟" كيف صار البعض بعد كفاح قرنين من الزمان يحنون إلى ظلام العصر العثمانى الذى أوشكت مصر فى ظله أن تبيد؟ و كيف أصبح أقطاب التغيير الثقافى منذ الطهطاوى و حتى طه حسين موضع الشك و التجريح بأقلام كتاب تقصر قاماتهم عن أن تحقق عشر معشار ما فعله هؤلاء الرواد العظام لصالح مصر؟ و كيف يجد أمثال هؤلاء آذانا صاغية؟ " أسئلة لا تزال تطرح نفسها بقوة على المشهد المصرى . يمكن  صياغة أكثر من محور للإجابة فهناك أسباب إقتصادية و إجتماعية و سياسية اجتهد فى تقديمها الكثير من الكتاب. لكن بهاء طاهر قدم طرحا آخر مرتكزا على عنصر التطور الثقافى وحده ، ملخصه أن مكانة المثقف و أهميته لدى الشعب و لدى القيادة السياسية هى السند الحقيقى لدور المثقف و عمله فى مجتمعه.

 يرجع طاهر التراجع الثقافى الذى شهدته مصر إلى فصل المثقفين عن الشعب و عن المساهمة الحقيقية فى رسم حاضر و مستقبل مصر بقيام ثورة 1952 . و يشير الكاتب إلى أن عصر الثورة قد شهد حشدا من عمالقة الثقافة المصرية الحديثة على سبيل المثال لا الحصر طه حسين و العقاد و توفيق الحكيم و  محمد مندور و جمال حمدان و نجيب محفوظ و يحيى حقى و يوسف إدريس  ، يصفهم طاهر" بكتيبة من المدفعية الثقيلة " لو ترك لهم المضمار فى "معركة التنوير و الحرية " لتغير المشهد المصرى تماما.  كان دور المثقف فى العهد الناصرى شرفيا فقد كرم طه حسين  و كان رئيسا شرفيا للمجلس الأعلى للآداب و الفنون  أما الأمين العام للمجلس فقد كان من الضباط ! أما أن ينفذ مشروع طه حسين التعليمى و الفكرى النهضوى الذى وضع إطاره فى كتابه " مستقبل الثقافة فى مصر" فهو درب من دروب المستحيل،  فليس من حق المثقف أن يطرح بديلا و إلا ظهرت العصا بدلا من الجزرة على حد تعبير طاهر. و تكرر النمط ذاته مع غيره من المثقفين.

و يرى الكاتب أن الضربة القاضية التى وجهت للمثقف كانت فى عهد السادات. فإذا ما كان المثقف فى عهد عبد الناصر فردا "مغلوب على أمره" فإن احترام العامة و تقديرهم له كان لايزال موجودا.  فقد بدأت الحملة لتشويه سمعة المثقفين و إزدراءهم منذ بداية حكم السادات. فقذفهم  بأوصاف مثل " مجموعة الأفندية الحاقدين " و " الشيوعيون الملحدون " ، و فصل منهم من فصل - كان من بين الذين فصلوا فى بدايه عهده  توفيق الحكيم و نجيب محفوظ – و عندما اعترض المثقفون على سياساته بعد حرب أكتوبر بدأت الحملة الكبرى فى القضاء عليهم و اقتلاع جذورهم من المجتمع ، و بدأت سياسات غلق الصحف و المجلات و طرد و سجن الكتاب و المفكرين ، و أطلق عليهم مجموعة من الشتامين من الكتاب الأدعياء لوثوا سمعة كل كتاب مصر أمام الجماهير ، مما أدى إلى خروج عدد كبير منهم  إلى دول الخليج أو إلى غيرها من منافى الأرض. فكان من الطبيعي أن تجد بعد ذلك كتبا تصدر للهجوم على قاسم أمين و طه حسين و كل المفكرين الذين أخرجوا مصر من منظومة الحكم العثمانى حيث الطاعة العمياء للحاكم الذى هو ظل الله على الأرض. ثم كانت الخطوات اللاحقة من وصف المثقفين بالعلمانيين و الدنيوين و حتى الكفار! بخروج المثقفين الحقيقين تردى مستوى ثقافة الجمهور العام  و انفصل المثقف عن جمهوره ، و ظهرت سينما المقاولات و مسرح القطاع الخاص ، و امتلأت الساحة بالمداحين و المنافقين ، و فى ظل هذا التراجع الثقافى العام لا تروج أفكار تلاميذ الطهطاوى و محمد عبده ، بل تروج أفكار لجماعات أخرى وجدت الساحة خالية و مهيئة لنشر أفكارها كجماعة الإخوان المسلمين و جماعات الجهاد الإسلامى . 

 اثبتت ثورة 25 يناير العظيمة و المفاجئة بالدليل القطعى أن أبناء رفاعة لا يزالوا حاضرين و الجميل أننا لم نسمع أسماءا لامعة و لم نعرف وجوها محددة إلا قليلا .. فهناك جيل بأكمله من أبناء رفاعة  بيننا- تتطلب معرفة الروافد المؤثرة فى هذا الجيل بحثا مطولا - لكنها أظهرت أن أنصار منظومة دولة الحاكم المرشد و ظل الإله موجودن بيننا و بقوة و أن دولة  الأدعياء و المنافقين لا تزال حاضرة أيضا ، و لكنى على يقين أن أبناء رفاعة سيظلون على عهدهم و سيواصلون جهودهم  لتأصيل ثقافة الحرية  فى وطننا  ، وهذه المرة للأبد بإذن الله.


* أرشح هذا الكتاب للقراءة بشدة ، بل  و أتمنى أن يلتفت إليه القائمون على وضع مناهج التاريخ لطلبة المرحلة الثانوية . أضعف الإيمان أن يقرر كقراءة خارجية لأنه يقدم سردا تاريخيا تحليليا معرفيا و ليس سردا معلوماتيا ، و بالتالى يساعد الطالب على فهم الأحداث و تحليلها و ربط النتائج بالأسباب . و انتظروا منى المزيد من التأملات و البحث فى المثقف و دوره.

Monday, May 9, 2011

أريد عالما أقل تعقيدا

 أريد عالما أقل تعقيدا ، فلم يعد عقلى البسيط قادرا على استيعاب قرارات الساسة و القادة  ، لم يعد قادرا على فهم تحليلات المفكرين و المنظرين و آرائهم فيما يحدث و لماذا يحدث ، لم يعد قادرا على استنباط المعنى من كثرة ما يروى و يُحكى . و فشلت حكايات التاريخ الإنسانى أن تفسر لى كيف ببساطة تتحول ملامحنا و أسماؤنا و قصص حياتنا إلى مجرد أرقام فى نشرة أخبار .                         

Thursday, April 28, 2011

للحياة ألوان

 Picture by : Kirstin Notle http://www.artbykiki.com/gallery/main.php
استوقفني مؤخرا ما قالته لي صديقتي اللبنانية " لبنى بتعرفي بيلبقلك تكوني يسارية وصاحبة كاس" ! دهشت وارتبكت ولم أعرف بماذا أجيب على هذا الوصف؟ بالرغم أنها لم تكن المرة الأولى التى أصنف فيها إيديولوجيا على أني من اليسار وأحيانا من الشيوعيين، مع الأخذ في الاعتبار أنني لم أعاصرفترة قوتهم و تأثيرهم فى المجتمع المصري ولم أقرأ فى كتبهم، وإن كنت قد درست المذهب الماركسي من بين ما درست من مذاهب الفكر المعاصر أثناء دراستي فى كلية الإعلام. و أذكر أن " تهمة " الشيوعية ألحقت بى من قبل زميل لي فى العمل لأني ذكرت أني أوافق على قول كارل ماركس بإن "الدين أفيون الشعوب"، بالرغم من شرحي لوجهه نظري بأن الدين يصبح "أفيونا" عندما يتحول، على يد مستغليه، من طاقة لبناء الإنسان إلى معوال هدم وكبت للأفكار و المشاعر. ولم تكن المرة الأولى أيضا  التى يحاول فيها أحدهم أن يضعني في إطار محدد أو أن يصنفني. المثير والمضحك في الأمر أن اليسار والشيوعية لم يكونا التصنيفين الوحيدين اللذين وصفت بهما، فقد وصفت بنقيضهما تماما فى مواقف أخرى بعضها متزامن مع مواقف التصنيفات السابقة  مثل المتدينة والمدروشة ومن بين التصنيفات أيضا أذكر علمانية.

بعد قول صديقتي هذا، بات من الضروري بالنسبة لي أن أفكر فى السر وراء عدم الوضوح الذى يراه في البعض فيفسروني كيفما يتراءى لهم. بالنسبة إلى الأمر أبسط من كل الأطر التى يريد البعض أن يضعني فيها ليفهمني أو ليصنفني  كعدو أو حبيب . إذا سلمت بأن تلك الصفات تبدو متعارضة فستكون النتيجة الحتمية هو أننى سأبدو فى نظر البعض بأني غير مفهومة أو مذبذبة أو متناقضة ، لكن إذا نظرت إلى الأمر من وجهة نظري ستجد أنه لا تعارض .


أحب الحلاج1 كما أحب تشي جيفارا .. هل تتعارض محبتي للحلاج الصوفي مع محبتى لجيفارا الشيوعي ؟ كلاهما كان يملك من الشجاعة  ما جعلته يختار أن ينزل إلى الناس  محبة فيهم و رغبة فى الإصلاح الاجتماعي و جهادا ضد ظلم وطغيان الحاكم، وكلاهما دفع حياته ثمنا لذلك الجهاد.


 وهل يمكن أن يمنعني إسلامي من محبة غاندي الهندوسي واحترام جهاده ضد العنصرية عندما كان طالبا  فى جنوب إفريقيا وضد الاحتلال البريطاني وضد الفرقة والتعصب الديني في الهند؟


أطرب لسماع النقشبندي، و تذوب روحى  بل و أكاد أبكي عند سماعي إياه منشدا " مولاي إنى ببابك قد بسطت يدي، من لى ألوذ به إلاك يا سندي"، و يملأني المرح و أرقص وأنا أستمع إلى أغنية  مايكل جاكسون the way you make me feel

تهزني اللحظة التى أسلم فيها عمر بن الخطاب بكل جبروته و قوته .. اللحظة التى لان فيها القلب الجسور إلى كلمة لا إله إلا الله .. ماذا وراءك يا عمر ؟ سأله جماعة من الناس .. ورائي لا إلله إلا الله و أن محمدا رسول الله .. أجاب عمر وسط ذهول الناس، ارتجفُ و أبكى فكأننى أسمع وأشعر بابن الخطاب و قد امتلأ بنور الله و بصدق محمد. 

تبهجني زينة رمضان كما تبهجني زينة الكريسماس. أنير الفوانيس فى رمضان و أضيىء الشجرة فى الكريسماس. أولم يكن عيسى عليه السلام نورا على العالمين كمحمد صلى الله عليه و سلم؟

أعشق مشهد طواف الحجيج  الذى يماثل حركة طواف الأفلاك و الجزيئات فى الكون .. تلبىة لنداء الخالق القادر البديع "لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك" .

  
أتابع مسابقات الرقص اللاتيني بين الحين و الأخر، حيث تبهرني قدرات الجسد البشري في التحرك.  أحب مشاهدة الرقص الشعبي بصفة عامة، خاصة رقصات فرقة رضا التى تحكي قصصا مصرية بالألحان والأغانى والحركات، والرقص الروسى المدهش الذي يعتمد بشكل أساسي على قوة عضلات الساق.


لا تحتار فى أمري إذا علمت أن رواية مثل "مريم الحكايا " للأديبة اللبناية علوية صبح تعجبني  بالرغم من الجرعة المكثفة من المشاهد التى تعتمد على الوصف الحسي، ربما لو كنت محل ناشرها لطالبتها بتقليل تلك الجرعة واستخدام الايحاء بدلا من الوصف المباشر الجارح فى بعض الأحيان، لكني أتفهم تماما استخدامها للوصف الحسي كأداة للتعبير عن الظلم والقهر الذى تعانيه النساء ويعانيه مجتمع بأسره مسلوب الإرادة ومهزوم الروح.


للحياة ألوان أراها و أشعر بها وأدركها  ببهجتها وقتامتها وأحيانا رماديتها. لا تحاول إذن أن تصنفني أو أن تضعني فى إطار نرجسي ضيق تحت أية مسميات أو أيدلوجيات. لا تحاول أن تعصب عيني وتسد أنفي وتصم أذني وتغلق فمي. ويحضرني هنا قول الحلاج "ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله فيه"، أرى الله فى اختلاف ألواننا وثقافاتنا وأفكارنا، أراه فى فنوننا واختراعاتنا واكتشافاتنا، في رقصاتنا وإبداعات كلماتنا، في تناحرنا ومحبتنا، في لحظات قوتنا ولحظات ضعفنا. 

للحياة ألوان .. أراها و اشعر بها.   


 [1]


[1] ولد الحسين بن منصور الحلاج حوالى منتصف القرن الثالث الهجرى. كان الحلاج من المتصوفة لكنه فيما يروى اختلف مع متصوفة عصره عندما نزل إلى الناس و جعل التصوف جهادا ضد الظلم و الاستبداد. اختلف المؤرخون حول الحلاج ، منهم من ينظر إليه كثائر على الظلم الاجتماعى و الطغيان فقد كان شاهدا على زمن تحلل الخلافة العباسية ، و منهم من يراه مجدفا و زندقيا.  لكنى أجدنى ارتاح للرواية الأولى و للصورة التى رسمها صلاح عبد الصبور للحلاج فى مسرحيته الشعرية مأساة الحلاج ، فكم من مغير و ثاثر اتهم بالزندقة و التجديف لأنه كان محركا للعقل و الروح ، فكان مصير الحلاج كمصير سقراط

Saturday, April 23, 2011

يسعد أيامك يا نور





تأتينى نور كل صباح بابتسامة تضيىء وجهها الصغير و سؤال : " حنعمل إيه النهارده ؟ " 
فى حال لم يكن هناك خطة واضحة لكيفية قضاء اليوم .. يعقب السؤال عدة اقتراحات لجعل اليوم مسليا من وجهة نظرها .. ما بين الخروج إلى ساحة الألعاب أو دعوة إحدى صديقاتها للعب معها أو مشاهدة فيلم كرتون أو الذهاب لشراء ألوان ماء جديدة و صلصال و غيرها من الأفكار التى لا تنضب أبدا


أما إذا كانت هناك خطة لرحلة أو لنزهة  فتتحمس نور و تظل تحلم باليوم المقرر للقيام بتلك الرحلة أو النزهة و تسألنى و هى تحاول جاهدة أن تفهم  الفرق بين الشهور و الأسابيع و الأيام و الفصول  : " يعنى الصيف ده إمتى ؟ " و " يعنى ننام و نصحى ننام و نصحى نروح السيرك ؟ " .

تنظر نور إلى أيامها بإبتهاج ، فكل يوم يمثل لها مغامرة جديدة ، فتصحو على شوق و أمل فى قضاء يوم جميل . و عند حلول موعد النوم تصدر نور تصريحا بدرجة تسلية اليوم ، فهو إما كان مسليا  " قوى " أو " شوية " أو  " مش حلو قوى " ، و فى حالة كان اليوم من النوع الثالث فيبقى الأمل فى الغد فتقول و عيونها تنعس : " يمكن بكرة أحلى " .

صغيرتى كم أنت جميلة و مرحة و ذكية .. أدعو الله أن تحنو عليك الأيام يا نور ، و إن اشتدت و ستشتد فى وقت من الأوقات يا حبيبتى فأتمنى أن تظلي على ذات الأمل و الشوق بأن الغد سيحمل لك ما هو أجمل و أفضل ، و أن تعرفي أنك أنت من تصنعين هذا الغد بأفكارك و أحلامك التى لا تنضب . أتمنى يا نور أن تستيقظى كل صباح  بابتسامتك الحلوة و بشوق و حب للحياة مهما بلغت درجة الصعوبات و الإحباطات و الإنكسارات . و أنا أكيدة يا نور أن بروحك المرحة و فطنتك ستجدين عند كل عثرة طريقا و مسلكا جديدا بإذن الله .

و يا رب يسعد أيامك يا نور ..

Saturday, April 9, 2011

الثقافة و الحرية و البحث عن دور

 1

كنت أقلب أوراقى القديمة لاختار أيها سأعرضها عليكم فطالعتنى خاطرة كتبتها عام 2003 ادهشنى محتواها لأسباب عدة : 
أولها أنها توثق لبحثى عن دور أقوم به فى مجتمعى ، و لحيرتى آنذاك مما يمكن أن أفعله لمساعدة الناس على التفكير الحر و رؤية العالم بشكل أرحب ، و إذا ما كنت قد خلقت لمثل هذا الدور و إذا ما كان باستطاعتى القيام به . كما توثق لغضب حملته فى تلك الفترة للناس و للحياة فى مصر ، كما تكشف رغبة فى البعاد للبحث عن رؤية جديدة . فى العام التالى حصلت على زمالة برنامج المنح الدولية لمؤسسة فورد الأمريكية و التى تخصص للأفراد الراغبين فى تحصيل العلم للمساعدة فى نهضة مجتمعاتهم ، و عملت بصورة غير منتظمة بالمجتمع المدنى المصرى ، و لكن انشغالى بالدراسة و الأمومة حال دون تطور خبرتى فى هذا المجال ، وتحقق البعاد بعد ذلك بست سنوات . 

وهاأنا بعد مرور عامين على تخرجى من البرنامج و حصولى على درجة الماجستير فى الصحافة و الإعلام و بالرغم من أننى تعلمت الكثير إلا أننى مازلت فى ذات اللحظة التى كتبت فيها تلك الخاطرة .. مازلت أبحث عن دور و مازال الطريق أمامى يبدوغائما. أحيانا يتخذ البعض منا طريقا أطول للوصول. و أنا طريقى متعرج و الثابت فيه هو الحلم الذى لا ينقطع و البحث الذى لا يهدأ. 

ثانى الأسباب أن الخاطرة تتناول ثلاثة كتب  قرأتها آنذاك و هى " معا على الطريق " للمفكر المصرى الراحل خالد محمد خالد و " صور المثقف" للمفكر الفلسطينى الأمريكى الراحل إدوارد سعيد و " وقفة قبل المنحدر .. من أوراق مثقف مصرى " للأديب المصرى علاء الديب . يعزف المؤلفون فيها  نغمة واحدة من البحث فى دور المثقف و الرفض لإرهاب الفكر و الضمير. و أنا حاليا أعيد قراءة  كتاب " أبناء رفاعة " للأديب بهاء طاهر الذى  يبحث فى الفكرة ذاتها (دور المثقف) مع تركيزه على مشروع النهضة المصرية الذى قاده قادة التنوير فى مصر بدأَ من رفاعة الطهطاوى و على مبارك و مرورا بالشيخ محمد عبده و عبد الله النديم و قاسم أمين و وصولا لطه حسين و أزيد عليهم أحمد أمين و أمين الخولى و الشيخ  مصطفى عبد الرازق ، و الذين - فى رأيى - اختلفوا كثيرا عن أجيال المثقفين اللاحقة  بأن كان لديهم مشروع تنويري حقيقي ارتبط فى إحدى جوانبه بشكل مباشر برجل الشارع البسيط و لم يكونوا منهمكين بمخاطبة بعضهم البعض فقط. 

و ثالثا أن الغضب الذى حملته فى الفترة التى كتبتُ فيها تلك الخاطرة  كان من بين أسبابه ملاحظتى لبداية ظهور الفكر السلفى فى مصر و الذى أدركنا توغله الآن فى مصر فى بيئة أصبحت بفعل سنوات القهر و الجهل صالحة لنموه و ازدهاره . 

و رابعا أننى استعدت أثناء قراءتى لخواطرى تلك الشعور نفسه بعدم القدرة و امتلاك الأدوات اللازمة للمساعدة فى  تحقيق التغيير الذى أنشده. بعد ثورة مصر العظيمة و المفاجئة كتبت لى " نشوى" صديقتى الجميلة الحالمة " عودى هذا وقت الشرفاء " ارتبكت لأنى لازالت أحمل ذات الشعور بعدم القدرة و أننى لازلت بحاجة لمزيد من الوقت و الخبرة و العلم و الحكمة لأعود. لازلت إذن فى ذات اللحظة التى كتبت فيها تلك الأوراق . المختلف أن المارد استيقظ فى مصر بعد سبات عميق و أن أملا – لم أشارك فى صنعه للأسف – قد بدأ فى شق طريقه إلى الروح المصرية ، و المختلف ربما أيضا أننى أصبحت أكثر قدرة و جرأة على حسم بعض الأمور و الصراعات و سأرجىء الحديث عنها لتدوينة أخرى.

سأترككم مع خاطرة من أوراقى القديمة و سأعود بعدها للحديث عن كتاب " أبناء رفاعة .. الثقافة و الحرية " الذى كتبه بهاء طاهر مايو 1993 ، حيث تأتى رؤيته التحليلية للمشروع النهضوى الثقافى المصرى المبتور متوافقة مع المشهد السياسى و الاجتماعى و الثقافى فى مصر الآن ، ويأتى سرده التاريخى لما حدث فى مصر ثقافيا و اجتماعيا على مدى قرنين من الزمان مشابها لما نلمسه الآن فى المشهد المصرى ، و كأنه قد كتب على مصر أن تدور فى دوائر و أن تصل بعد السعى إلى ذات نقطة البدء.

مصر الجديدة 28-12-2003

يقول المفكر الفلسطينى الراحل إدوارد سعيد فى كتابه (صور المثقف) " أريد أن أشدد على أن المثقف فرد له دوره العمومى المحدد فى المجتمع الذى لا يمكن اختزاله ببساطة إلى وظيفة لا وجه لها ، إلى مجرد فرد مختص منشغل تماما بعمله . إن الحقيقة المركزية بالنسبة لى ، كما أظن ، هى أن المثقف فرد منح قدرة على تمثيل رسالة ، أو و جهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأى ، و تجسيدها و النطق بها أمام جمهور معين و من أجله "

أحيانا أتساءل هل منحت هذه القدرة على تمثيل رسالة أو موقف او رأى؟ هل منحت هذه القدرة على تجسيد ذلك و النطق به أمام الناس؟ أم أننى أخشى مواجهة الناس؟ اشعر فى بعض الأحيان أن لدى هذه القدرة على المواجهة ، و أحيانا أخرى أشعر أننى لا أملكها .. كل ما أعرفه أن لدى رغبة ملحة لمشاركة الناس و اطلاعهم على ما اكتشف و أعرف .. و كل ما أعرفه أننى عاشقة للإنسان و استعير هنا كلمات الكاتب خالد محمد خالد من كتابه (معا على الطريق) لأن بها أبلغ وصف لما أحس به تجاه هذا الكائن المعجزة الإنسان .. فيه تكمن المعجزة و القدرة لكنه قليلا ما يدركها " الإنسان هذا الاسم ذو الرنين الصادق ، الفاتن المثير .. هذا الكائن الذى أؤتمن على كل أمانات الحياة و و اجباتها ، هذا المسافر الذى لا يضع عصاه عن كاهله لحظة ، و الذى يولى وجهه دوما شطر كمال بعيد .."

الإنسان معجزة من معجزات الرحمن ، فى أنفسنا يكمن سر الكون و الحياة ، نتواصل مع إله الكون من خلال ما منحه لنا من عقل يتدبر و يتأمل ، ما منحه لنا من قلب ينبض و يشعر ، و ما منحه لنا من عين تحتضن جمال الكون و اتساعه .. الكون الذى خلق من أجلنا .. من أجل أن نتعلم و نتحاب و نتعاون .. من أجل أن نتواصل مع بارئنا حتى نعود إليه مجددا .. لنحيا. لذا أجدنى دائما منجذبة إلى فكرة الخلاص الجماعى أود أن يرى الناس و يدركون رحابة الحياة و جمالها ، خصوبة الافكار و ثرائها، أريد للناس عينا ترى و تدرك ، قلبا حيا ينبض ، عقلا يتفكر و يتدبر ، و أعود لأستعير بضع كلمات من كتاب (معا على الطريق) الذى يفيض إنسانية و إيمانا حيث يرى كاتبه أن أول مظاهر الوجود الحق للإنسان هو الفكر " و كل دفاع عن حرية الضمير ، و حقوقه .. هو دفاع عن حرية الفكر و حقوقه .. إن التفكير عملية ذهنية نزاولها جميعا بإسلوب تلقائى حتمى لا نتكلفه، و لسنا على دفعه بقادرين. كل فرد يفكر فى شئونه ، و شواغله ،و رؤى نفسه ، و كل فرد  يعبر عن ذات نفسه بالطريقة التى التى يستطيعها. و يتعرقل تفكيرنا و ينافق تعبيرنا ، حين تصيبنا بعض الضغوط الكابحة ، هذه الضغوط ترتكب جريمة إرهاب الضمير" و هو يرى أن إرهاب الضمير أشد قساوة و ضررا من إرهاب الجسد ، لأن إرهاب الجسد قد يكبت التصرفات و السلوك و القول أما إرهاب الضمير" فيسلط على بؤرة الحياة فيفسدها إفسادا لا يكاد يصلحها بعد ذلك شىء ، لانه توجه إلى العقل و التفكير ، إلى الجهاز العظيم الذى يصنع لنا فى الحياة كل جليل من الأمور .. و يأتى انحراف الضمير من تضليله ، و حبس المعرفة عنه ، و عن طريق إرهاب الضمير بالتخويف الدينى و السياسى و الاجتماعى."


أرى أن هناك أناسا كثيرين مضللين فى وطنى .. أود حقا أن أتمكن من المساهمة بشكل أو بأخر فى إزالة أسباب التضليل .. أن أتواصل مع الناس بشكل أكثر إيجابية ، أكره النقاب ، اكره الجهل  ، أكره الظلم ، أكره التطرف ، أكره كل ما يشوه الإنسان و يمنعه من التواصل مع بارئه و الشعور الحق به و إدراك عظمته و رحمته و جماله و جلاله. قد يكون ما اشعر به و أرغب فى تحقيقه حلما يوتوبيا .. لكننى سأسعى إلى تحقيقه قدر المستطاع فيما أقدمه من اعمال ، و فى حياتى اليومية ، عل آرائى و أفكارى تجد صدى لها وقت ما .. فى زمن ما ..


و أتذكر فى هذا المقام ما جاء بالسيرة الذاتية (وقفة قبل المنحدر .. من أوراق مثقف مصرى) للأديب علاء الديب عن المثقف ، هو يرى أن لا أحد يشعر بمعنى التخلف قدر ذلك الكائن الذى يطلق عليه المثقف ، هو عبارة عن "تركيبة غريبة تطمح دائما إلى أن تعيش فى المعانى المطلقة و المجردة للأشياء ، أقدامه مغروسة فى طين الواقع ، و عيونه الفاحصة المدربة قادرة على اكتشاف أصغر ما فى واقعه من متناقضات مزعجة . إحساسه المركب قادر على تكبير الأخطاء ، و رؤية ما خلفها من معانى و دلالات. و الأدهى و الأمر ان أغلب أحلام المثقف مرتبطة بفهم الواقع بل و العمل على تغييره ، وضعه المعلق دائما بين الحلم و الواقع يجعل منه وترا مشدودا ، و ضعه هذا يجعله يعيش اللحظة مرتين يذوق المر مرتين و يندر أن يبقى فى فمه طعم لحلاوة"


إننى أشعر فى احيان ليست بالقليلة أن لدى إحساسا مضاعفا بكل ما يدور حولى و كأن لدى مجسم للمشاعر و إنه لأمر مرهق و مؤلم ، إننى أعيش اللحظة مرتين أيضا و أشعر و أتفهم ما كتبه علاء الديب فى نفس العمل عن التخلف الذى أعايشه كل يوم فى الشارع ، فى العمل ، فى عقول الناس ، فكانه يكتب ما افكر فيه" ليس التخلف فقرا فقط إنه كائن أخطبوطى . ولد فى الظلام من الفقر و الجهل ، و عاش فى الغفلة و البلادة ، تربى فى العجز و ضيق الأفق . التخلف بالنسبة لى جسد حى أصارعه فى كل لحظة من لحظات وجودى ، فى بيتى ، فى الشارع ، و فى الوجوه و المشاعر ، فى مداخل المدن و تحت الكبارى ، فى العلاقات بين الناس ، فى الحب ، فيما أقرا و أتناول .. "


من الغريب أن شعوره بالتخلف من حوله يدفعه لسبب لا يعلمه كما يقول إلى مزيد من الارتباط و النتماء ، إلى مزيد من الحلم بأن يعيش و الناس واقعا جديدا. فيما مضى كنت أشعر بذلك الانتماء ، و على ما يبدو لى أنه لايزال موجودا بدرجة ما ، لكننى الآن فى هذه الفترة من حياتى أرغب فى الابتعاد عن وطنى لفترة حتى يتسنى لى إنقاذ نفسى مما يحيط بى من أمور تؤلمنى و تؤلمك بشدة (الخطاب هنا موجهه لرفيق دربى محمد الذى دوما أجدنى أخاطبه فى لحظة ما فى أوراقى) ، حتى أحافظ على ذاتى ، حتى أرى عوالم جديدة علها تساعدنى فى لملمة حيرتى، لكنى يجب أن أعترف بخوفى من الغربة، أريد أن ابتعد كى اتمكن من الاقتراب مرة أخرى ، لكننى اخشى الابتعاد و انهكنى القرب .. معادلة صعبة على حلها عندما يحين الوقت.    
    

Tuesday, March 29, 2011

من بلاد بعيدة أكتب على أمل الوصول


بعد ما ادى وبعد ما خد
بعد ماهد وبنى واحتد 
 شد لحاف الشتا من البرد 
بعد ما لف وبعد ما دار
بعد ما هدى وبعد ما ثار
بعد ما داب واشتاق واحتار 
حط الدبلة وحط الساعة
حط سجايرة والولاعة 
علق حلمه على الشماعة
شد لحاف الشتا على جسمه
دحرح حلمه و همه و اسمه
دارى عيون عايزين يبتسموا

لهذه الأغنية وقع خاص على نفسى ، عندما اسمعها أود أن أكون مثل هذا الرجل ، أن أصل إلى مرحلة تعليق أحلامى و ثوراتى و صراعاتى وأنا مبتسمة و راضية عن عمرى. حاليا أنا فى قمة الصراع و الانفعال و الحلم  و البحث ، و رغبتى فى الوصول إلى طريق و إلى حسم لصراعات داخلية عدة و مسامحة ذاتى و مسامحة الآخر فى حياتى ، و رغبتى فى التواصل و تبادل الرؤى و الأفكار وراء كتابة هذه المدونة . لك أن تفسر البلاد البعيدة بمعناها القريب و هى بلاد الغربة الحقيقية التى اخترت الذهاب إليها بحثا عن رؤية جديدة و أملا فى القدرة على العودة و الاقتراب مجددا، و إن كانت البلاد البعيدة بالنسبة لى هى ذاتى التائهة عنى و حان وقت استردادها .

 قسمت المدونة إلى موضوعات لتنوع شغفى - و إن كان على تنوعه متصل - هناك موضوعات تتعلق بفنون و علوم الاتصال ويغلب عليها الطابع الأكاديمى لذا ستجدونها تحت عنوان أكاديميا ، وهى فى معظمها الأوراق البحثية التى قدمتها  لأساتذتى وناقشتها معهم ولاقت منهم استحسانا أثناء دراستى بالجامعة الأمريكية بالقاهرة للحصول على درجة الماجستير فى الصحافة و الإعلام . بذلت فى إعدادها مجهودا كبيرا و لا أريدها أن تظل حبيسة "الفلاش ميمورى" ، فهى توثق لمجموعة من القضايا و المفاهيم و النظريات الاتصالية المهمة ، و إضافة إلى ذلك  توثق لفترة تعلمت فيها  الكثير بالرغم مما لقيته من  صعوبات عدة خاصة  فى البداية. و سيأتى الحديث عن تلك الفترة و تلك الصعوبات لاحقا. 

وهناك موضوعات تتصل بما قرأت مؤخرا من كتب و دراسات ، أسجل انطباعاتى عنها و ما حركت فى نفسى من مشاعر و ما أثارت فى عقلى من أفكار ، أو كتب قرأتها منذ فترة لكنها ساهمت فى تشكيل وعيى و تكوينى و ظلت حاضرة فى ذاكرتى . أضم إلى هذا القسم من المدونة أيضا ما شاهدت من أفلام  روائية و وثائقية . ستجدون تلك الموضوعات تحت عنوان  " قراءات و مشاهدات ".


تحت عنوان " أوراق قديمة " أضع بين أيديكم  كتابات دونتها بين أعوام 1995 و 2000 ، أى أنه قد مر على كتابة بعضها ما يقرب من الخمس عشرة سنة . عندما أعود لقرأتها أجدنى أمام " لبنى " أخرى ، لا أنكر أنها مازالت تشبهنى أو مازلت أشبهها فى نواح عدة ، لكنها ربما  كانت أكثر براءة أو سذاجة . أما عن الأسلوب فهو ملىء بالمحسنات اللفظية ، يميل إلى الخطابة فى بعض الأحيان ، و يحمل سعادة المبتدىء باكتشاف قدرته على التعبير بالكتابة و فرحته بالكلمات ، و يحمل مُثل و شفافية مقتبل العمر.

 هناك أيضا "مساحة حرة " أسجل فيها انطباعات متفرقة عنى و الحياة.

و تحت عنوان " الحلم الأمريكى " أسجل انطباعاتى عن الحياة فى أمريكا.

  

Monday, March 28, 2011

المكتوب

  (1)

عندى هوس بفعل " كتب " ، كتب يكتب فهو كاتب ، و أوراقه التى أودعها أفكاره هى المكتوب .. الساحر.. المغير.. المقلق . " كتب " هو الفعل الأكثر تأثيرا فى حياة البشر .. الفعل الحافظ  للإنسانية ذاكرتها .. اندثرت أقوام و لم يبق منها غير المكتوب ، رسائل من أزمان و عقود سحيقة تحكى قصصا و تسجل تجارب و تؤرخ لأحداث. يسحرنى المكتوب ، يلقى على بتعويذة تأسرنى . عند قراءتى لنظرية علمية أو شخوص روائية أو فكرة أو تحليل لحدث أو موقف ما ، أشعر أن صاحبها يتحدث إلىِ و يسر إلىَ بأفكاره واكتشافاته و خيالاته ، فيتخطى كلانا حدود الزمان و المكان من خلال ثنائية الكاتب و القارىء ، تلك الثنائية التى يخلد فيها القارىء الكاتب بتعاقب الأجيال ،  فإذا ما وقعت عينا القارىء على الأسطر التى خطها كاتب من زمن بعيد  سمع همسات خواطره تتردد فى عقله ، فكأن الروح تبعث فى الكاتب من جديد ، و تعود الحياة إليه فى كل مرة يتصفح أحدهم كتابه. و من أكثر ما أحب ، قراءة خواطر أو انطباعات أو استنتاجات  قارىء مكتوبة على هامش كتاب..علاقة حميمية أخرى تنشأ بينى و بين قارىء احتضن السطوربعينيه قبلى .  كنت أقرأ منذ وقت قريب كتابا من مكتبة "جد" زوجى كتب عام 1939 ، الكتاب و أوراقه الصفراء الرقيقة بعث فى قلبى ارتجافة لمجرد أننى أقرأ أفكارا دونت قبل أكثر من سبعين سنة.. و تأثرت أكثر عندما قرأت ما دونه "الجد" بخط يده على بعض هوامش الكتاب. 

اكتشفت أن هذا الهوس بفعل "كتب" كان وراء اهتمامى بأدب الاعتراف و الذى تمثل فى قيامى بإعداد و تقديم برنامج إذاعى متخصص فى أدب السير ، ثم اهتمامى بالمدونات الشخصية التى كانت محور دراستى للماجستير ، و أخيرا دراستى لمنهج الإثنوجرافى المستخدم فى العلوم الاجتماعية ، و يعنى ببساطة تدوين قصص و عادات مجموعات من البشر من خلال المعايشة و الملاحظة ، و يقوم فى الأساس على ما كتبه الباحث فى مذكراته الميدانية. أعشق قراءة الروايات و أدب السير.. حيوات متوازية أعيش  فى عالمها لساعات .. أتركها .. لأعود إليها بلهفة .. يجمعنى و بعضها صداقة تمتد لعمر بأكمله .

(2)

 لماذا نكتب؟ هل هى الحاجة إلى الإفضاء كنوع من العلاج الذاتى؟  الحاجة إلى الظهور و الإعلان عن الوجود شخصا و فكرا ؟  الحاجة إلى الخلود؟ أم الحاجة إلى المشاركة؟ على اعتبار أن أكثر الكتابات خصوصية هى موجهه فى الأساس إلى قارىء كما ذكر هابرماس Habermas ( ذلك الفيلسوف الألمانى الفذ الذى سأذكره مرارا لأن نظريته الشهيرة " الرأى العام " كانت محور دراستى).  

بالنسبة إلى ، أنا أكتب حتى لا أختنق بأفكارى و هواجسى و أحلامى و ما أكثرها .. الكتابة هى طريقى الوحيد لتخفف من تلك الأثقال .. أكتب لأفهم ، لأتواصل ، و لأتصالح مع ذاتى و زمنى و سنين حياتى . أكتب لأن الكتابة هى الدليل على أنى مررت من هنا ذات يوم .. الدليل على أنى كنت  أحب .. أفكر .. أخاف .. أحزن .. أفرح .. الدليل على أنى كنت أحيا .

اتخذت الكتابة و احتياجى إليها بعدا أخر بميلاد ابنتى نور .. أصبحت الكتابة أمرا مُلحا .. فأنا أريدها أن تقرأنى و تعرفنى و ترانى فى هيئتى الإنسانية الخالصة. لا أريد أن أكون مجرد السلطة العليا .. صاحبة التوجيه و مسئولة الملبس و المشرب و الترفيه .. أريدها أن تعرفنى كما أنا بنجاحاتى و اخفاقاتى .. بنقاط ضعفى و نقاط قوتى .. لا أعرف كم من السنين سأحيا بقربها .. لذا أريدها أن تعرفنى و أن تسامحنى إن تكونت فى قلبها على مدار السنوات غصة  تجاهى .. أريدها أن تتذكر لحظاتنا الحلوة معا .. أريد لها أن تعرف كم أحبها .. أريدها أن تعرف أن ضحكة عيونها تشرح صدرى . ولذا سأضم إلى المدونة لاحقا جزءا خاصا بابنتى و نور حياتى " نور" ستكون فى مجملها  رسائل عن الأمومة و سحرها و ارتباكاتها .