Thursday, May 10, 2012

بين الثنايا


Image from thefoxisblack.com
يمكن للإنسان أن يكتشف عوالم رحبة في أكثر الأماكن غرابة.. في قطعة ورق! مازلت أذكر كيف كانت تغمرني السعادة وأنا بعد فتاة صغيرة عندما يقوم والدي بطي ورقة ليصنع لي مركبا أو ضفدعة أو طائرة. كنت أقف مبهورة به أتأمل أصابعه وهي تقوم بطي ورقة بسيطة لتحويلها إلى  لعبة. ما كان يقوم به والدي ليدخل السرور إلى قلبي هو أبسط صور فن، أو إن شئت أن تسميه، علم "الأوريجامي" أو "طي الورق"، والذي يلقي الفيلم الوثائقي "بين الثنايا" أو "Between the folds" الضوء على عالمه السحري. يعرض الفيلم لفكر وتجارب عدد من محترفي طي الورق أو " the Folders". ينتمي هؤلاء المبدعون إلى تخصصات مختلفة فمنهم المثال، وصانع الورق، والفيزيائي، والمصمم وعالم الرياضيات، ويأتون من بلدان وثقافات مختلفة ليمنح كل منهم بصمة متفرده وأشكالا مختلفة للورق بطيه. فالورقة واحدة لكن الشكل دوما  مختلف! يتحول الورق إلى تمساح ضخم بحراشفه المعقدة أو قوقعة بدقة تفاصيلها أو عازف كمان بإنحناءات يديه وجسده أوطائر أو حشرة أوشجرة أو وجه أو إلى مجالات وأشكال هندسية تطوى ثم تنبسط كاشفة عن الضوء يتلاعب بين ثناياها، وإلي أشكال أخرى كثيرة لا يسعني وصفها.

وليس "الأوريجامي" مجرد طي للورق لتحويله إلى أشكال، ولكنه يحمل بين ثناياه حكمة وعلما. يرى واحد من محترفي الطي أن الأوريجامي يشبه الإنسان في حاجة كل منهما إلى التغير "فالأوريجامي هو إلي أي مدى يمكنك تغيير ذلك المربع عن طريق الطي فقط". ويدعوك أخر إلى إحصاء عدد الأشياء المطوية  حولك، ويقول مخاطبا محاوره في الفيلم" أكثر الأشياء وضوحا الآن ياقة القميص الذي ارتديه ..ثنايا الجلد فوق عيني .. عندما اتحدث إليك فإن الهواء يطوى حتى يصل إلى أذنيك .. المجرات تطوي ذاتها وهي تتحرك..حتي تركيبنا الوراثي ال DNA مطوي.. أنا وأنت جئنا من بين تلك الثنايا". المدهش أن مجالات علمية عدة كالهندسة، والطب، والنانو تكنولوجي، والطبيعة، والفضاء تستخدم الطي لحل بعض المشكلات. آخرها محاولة علاج الأمراض التي تنتج عن خلل في طريقة طي البروتينات في الجسم، على ما يبدو بإعادة طيها بشكل سليم، فالبروتينات التي داخلنا أيضا "مطوية".

 بعد مشاهدتي للفيلم وجدتني أردد في نفسي تلك الآية البليغة "وفي الأرض آيات للموقنين"[1]  وكأني أدرك لها معنا جديدا بعثه إلي قلبي "طي الورق"..  يتواصل الإنسان مع خالقه بمحاكاة إعجاز خلقه سواء جاءت تلك المحاكاة في لوحة أو مقطوعة موسيقية أو اختراع علمي أو طية ورق كما في الأوريجامي.. ولقد استوقفني مشهد من الفيلم لأكيرا يوشيزارا Akira Yoshizara الأب الروحي للأوريجامي، كان الرجل على مابدا لي يصلي أو يتضرع أمام الورقة قبل أن يبدأ في طيها، لا أعرف بماذا كان يتمتم في سره، ولكن المشهد أثر في، فتصورت أن تلك الورقة ربما هي الرابط بينه وبين الخالق..فالتأمل والمحاكاة طريق للفهم وكأن الوجود محمل بشفرات كلما تمكن الإنسان من فك شفرة منها اقترب خطوة من خالقه، قد يبتعد أو يشذ أحيانا، لكنه دوما يعود.. أو هكذا آمل.







[1] سورة الذاريات، آية 20

النساء من كتابة الرسائل إلى التدوين الشخصي

Image from http://tribes.tribe.net
 قبل أن تقرأ
تأخرت عدة سنوات في إعداد ملخص باللغة العربية عن دراستي المكتوبة باللغة الإنجليزية عن المدونات الشخصية للمرأة المصرية ونتائجها. لقد مر أكثر من عام على نشر مدخل عنها في موسوعة الحركات الاجتماعية عبر وسائل الاتصال عن دار نشر ساج الأمريكيةEncyclopedia of social movement media by Sage publications . ومرت أربع سنوات تقريبا على الدراسة ونتائجها. خلال هذه السنوات انتقلت للعيش في أمريكا وسيطر "الفيس بوك" و"تويتر" على المشهد في الفضاء الإلكتروني مضعفا دور التدوين (مجرد ملحوظة تحتاج إلي بحث دقيق) وقامت ثورة في مصر. ساهمت تلك الأحداث إلى حد ما في تأخر كتابتي لهذا الملخص. أما لماذا اكتبه الآن وأنا على علم بأن القاريء المحاصر بالأنباء والمقالات والتحليلات و تبادل الأقوال والصور والفيديوهات، ربما لن يجد الوقت للقراءة أوربما لن يهتم بمعرفة نتائج بحث مرت عليه عدة سنوات، فلذلك عدة أسباب أولها: وعد قدمته للمدونات المشاركات في الدراسة ولم أفِ به لكتابة ذلك الملخص لإطلعهن فيه على نتائج الدراسة. وثانيها: جملة كتبتها صديقتي المدونة الرقيقة "لست أدري" كتعليق على "الفيس بوك" وهي "تلك الأيام الخوالي للتدوين" وصادف أن يكون التعليق ذاته عنوانا لتدوينة لمدونة أمريكية أوحشها التدوين الذي ابتعدت عنه بدخول "الفيس بوك" حياتها فقررت أن تعود إليه حتي وإن لم يعد هناك من يتابع ما تكتب،  فجعلتني تلك الخواطر عن التدوين أن أعود لمتابعته، وفكرت أنه ربما بنشر ملخص لدراستي تلك عن التدوين الشخصي أساهم في عودة الروح إليه. وثالثها: راسلتني منذ شهر تقريبا باحثة ايطالية تدرس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة وتكمل ما بدأته في بحثي عن التدوين والمرأة المصرية بتركيز على التدوين والتمكين النفسي، فأعادت إلي الرغبة في كتابة هذا الملخص. ورابعها: وجدتها فرصة للعودة إلى مدونتي الشخصية واستئناف فعل الكتابة الذي أعشقه وأكرهه في آن واحد. أعشقه لأن بالكتابة أتخفف من أحمال القلب والعقل وما أكثرها لدي، وأكرهه لكثرة الأصوات والأفكار التي تتحدث وتتصارع في رأسي وهي دوما أكثروأسرع من قدرتي على الكتابة وهو أمر مزعج لدرجة أنني صرخت ذات مرة قائلة "كفاية كلام في دماغي بقى" فارتعدت ابنتي للحظة فلم تفهم من تخاطب أمها، ثم سألتني: "أنت كويسة يا ماما؟" المسكينة الصغيرة اعتقدت أن أمها انتابها جنون لحظي وربما كانت تلك اللحظة أشبه بلحظة جنون فعلا. المهم.. أعود للكتابة حماية لنفسي ولمن حولي من عودة لحظات الجنون تلك أو للحد منها على الأقل.

النساء .. من كتابة الرسائل إلى التدوين الشخصي
بدأ اهتمامي بدراسة المدونات في عام 2006 مع بداية الحديث عنها كظاهرة ملفتة للإنتباه في مصر آنذاك. فقد نجح المدونون في جذب الانتباه إليهم في أكثر من موضع لعل أشهرها حادثة التحرش الجماعي بنساء في منطقةوسط البلد والتي كشف عنها المدونون في مدوناتهم ونقلت عنهم وسائل الإعلام الرئيسيةالخبر بعد ذلك. وفي عام 2008 عادت المدونات والمدونون إلي الأضواء وعاد الجدل حولهم في الظهورعندما اطلقت دار الشروق المصرية  سلسلة "مدونة" حيث قامت بإعادة نشر محتوى مدونات "حدوتة" و"مع نفسي" و"عايزة اتجوز" في كتب حققت نسبة مبيعات عالية فور نشرها، وكانت ثلاثتها لنساء. اهتمت الصحف ووسائل الاتصال المختلفة بهذه الظاهرة وأجريت المقابلات التليفزيونية مع المُدونات (بكسر الواو) الثلاثة (أشهرها اللقاء مع الإعلامية مني الشاذلي في برنامج العاشرة مساءا) في محاولة لمعرفة لماذا حققت كتبهم أعلى المبيعات. وشهدت المدونات انقساما في الآراء حولها، فقد رأى البعض أنها تمثل تهديدا للمجتمع و للغة العربية، على اعتبار أن عددا من المدونين يكثر من استخدام العامية في الكتابة، أو أنها بلا قيمة (نعتها أحد الأدباء المعروفين بأدب الكلينكس) وتحمس البعض الآخر لها كونها نوعا أدبيا جديدا يعبر به الشباب عن ذاته.  
في ظل تلك الآجواء التي اتسمت بالنمو السريع لشبكات التفاعل الاجتماعي تنامي اهتمامي بالتدوين وعالمه. ولاهتمام شخصي لدي بأدب التراجم والسير والرسائل قمت بالتركيز على المدونات الشخصية كونها امتدادا حديثا لذلك النوع الأدبي الهام. ولدهشتي وجدت في الدراسات السابقة حول التدوين الشخصي ما يشير إلى وجود نظرة سلبية للمدونات الشخصية التي تكتبها النساء في العادة، على اعتبار أن النساء المدونات غير قادرات على الكتابة الجادة لغلبة الطابع الذاتي والحديث عن حياتهن الشخصية. وبناءا على ذلك، رأى البعض أن مدونات النساء الشخصية أقل قيمة من المدونات السياسية التي يكتبها الرجال في العادة. كما انقسمت الآراء حول مدى جدية ومدى تأثير ونفع المدونات الشخصية، ومن ثم لقي هذا النوع من التدوين اهتماما أقل من جانب الباحثين في علوم الاتصال على الرغم من أنه يعد أكثر أنواع التدوين شيوعا Gregg,2006;Herring, Kouper, Scheidt& Wright, 2004)). دفعني شغفي الشخصي بالكتابة الذاتية، إضافة إلى كوني امرأة، لدراسة المجتمع التدويني للمرأة المصرية بتركيز على المدونات الشخصية في الفترة من أكتوبر 2007 إلي نوفمبر 2008 بحثا عن ما قد يحمله التدوين الشخصي من تأثير قد يغير تلك النظرة السلبية إليه.
بين النساء والتدوين الشخصي والمواطنة الثقافية    
 أسفرت قراءاتي في الدراسات السابقة عن رؤية لعلاقة تربط بين النساء والتدوين الشخصي ومايسمى "بالمواطنة الثقافية" التي تعني باختصار إدراك الفرد لذاته الخاصة وعلاقتها بالمجتمع المحيط، ويعد وجودها ضرورة في مجتمعاتنا الحديثة (Delanty,2003)، فقمت بالبحث في تلك العلاقة وأبعادها، واخترت البحث في التأثيرات الصغرى التي يمكن أن يحدثها التدوين الشخصي على مستوى الفرد، حيث ينشغل الباحثون في علوم الاتصال في العادة بالبحث في التأثيرات الكبرى لوسائل الاتصال الحديثة، وخاصة الإنترنت، وما يمكن أن تحدثه من تغييرات سياسية واجتماعية كبري في مجتمعاتنا الحالية. وعلى الرغم من أهمية ذلك، إلا أنه في حال لم توحد الجماهير تحركاتها في الفضاء الإلكتروني في عمل جماعي كثورة أو كحركات مدنية، لا ينبغي التقليل من أهمية نشاطهم في ذلك الفضاء Schech,2001 Warschauer,2004; Croteau& Hoynes,2003)). وسآخذكم في السطور التالية إلى محطات سريعة في دراستي تلك.
 قرن المُكاتبات
اطلق الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هابرماسHabermas [1] (18-6-1929) على القرن الثامن عشر في أوروبا مسمى "قرن المٌكاتبات أو قرن الرسالة"  (the century of the letter) حيث اتسم بشيوع أنواع أدبية مثل النقد الأدبي وفن الرسائل والمذكرات الشخصية، مؤكدا على أهمية هذه الأنواع الأدبية والمناقشات حول الفنون والآداب في تعزيز النقاش النقدي ودعم التفكير المنطقي والذي عده هابرماس المقدمة الأدبية الممهدة لنشأة المجال العام  السياسي. حيث يتيح السرد الأدبي الذاتي كالمذكرات والرسائل اكتشاف الفرد لذاته وعلاقته بمجتمعه. ووفقا لهابرماس فإن إدراك وفهم الأفراد لذواتهم أمر ضروروي للإنخراط في الجدل النقدي العقلاني. وقد كان لنساء دور في المجال العام الثقافي آنذاك (وإن اختلف الباحثون حول مداه أو قوة تأثيره) لارتباط أدب الرسائل والمذكرات بهن، حتي أن ( Pask,2004) قد أشار إلى أنها ربما تعد المرة الأولي التي يصبح فيها نوع أدبي في تاريخ أوروبا الأدبي مرتبطا بالنساء إلى هذا الحد.
تدوين الحياة
يؤكد الكثير من الباحثين (Bannan,2005; Pask,2004; Yale,2007; Bean,2006; Stavrositu&Sundar,2008; Beatti,2007)) على أهمية تدوين الحياة في تطوير وإثقال الهوية الذاتية للفرد، حيث تعد الكتابة عن الحياة الشخصية هامة في مساعدة الفرد على فهم نفسه ودعم ثقته بذاته. وهي وسيلة هامة في تطوير الهوية الشخصية والتواصل بين الأشخاص والتعافي النفسي للكاتب والقارىء معا، خاصة وأن الكتابة الشخصية تكون في الأساس موجهه لقاريء ما.
ما هو شخصي هو سياسي
شجع شعار المد الثاني للحركة النسائية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي القائل بأن  "ما هو شخصي هو سياسي" (The personal is political)النساء على دفع المسئولين إلي الانتباه إلي أهمية حياتهن الخاصة والاعتراف بمشكلاتهن الشخصية مثل التحرش الجنسي والعنف المنزلي كونها مشاكل سياسية لأنها تؤثر في النهاية على المجتمع ككل. ولمفهوم "الكشف عن الذات" أهمية في المدرسة الفكرية النسائية. فقد قامت مجموعة من نساء المد الثاني للحركة النسائية في السبعينات من القرن الماضي بالبدء في كتابة مقالات تكشف عن أحداث خاصة في حياتهن، والتي أسهمت بدورها في تكوين مجموعات مهتمة بفكرة الوعي بالذات من قراء المذكرات. وقد اطلق الأكاديميون على هذه الحركات الأدبية مسمى النقد الشخصي أو الذاتي(Bannan,2005) ويظهر البحث في مماراسات التدوين أن الكتابة الشخصية مازالت مرتبطة بالنساء في عصرالشبكة التفاعلية، حيث النسبة الأكبر من المدونات الشخصية تكتبها النساء (Gregg,2006; Smith,2006; Herring et al.,2007).
المواطنة الثقافية وما هو يومي وشخصي
المواطنة الثقافية (Cultural citizenship)مصطلح يوسع مفهوم حقوق وإرادة المواطنة لأبعد من التعريفات القانونية الخالصة، وينظر إليها باعتبارها ضرورة في المجتمعات الحديثة لتمكين الأفراد والحد من العداء للآخر. وهي تعني كما أشرت سابقا "إدراك وفهم الفرد لذاته الخاصة وعلاقته بالآخر وبالمجتمع المحيط". ويؤكد مجموعة من الباحثين(Burgess et al.,2006) على أن الممارسات اليومية على الإنترنت مثل "الدردشة" و"مشاركة الصور" و"الحكي عن ما هو يومي" من شأنها أن تؤدي إلى ممارسة المواطنة الثقافية.
تسع مُدَوِنات مصريات
قبل إجراء الدراسة المسحية قمت بإجراء لقاءات مع تسع مدونات[2] مصريات لمعرفة أسباب ودوافع قيامهن بالتدوين والموضوعات التي يكتبن عنها وتأثير التدوين على حياتهن.كانت مدوناتهن مزيجا من الكتابات الشخصية والاجتماعية والأدبية، دون وجود فواصل حادة بينهم، فيما عدا مدونة واحدة سياسية وهي مدونة "واحدة مصرية". وقد كان "التفاعل مع الآخرين" و"تبادل الأفكار مع الآخرين" و"فهم الذات من خلال الكتابة" من بين دوافعهن للتدوين.
ستة وستون مدونة مصرية
في محاولة لفهم مستويات التسامح/تقبل الآخر والوعي بالذات والتمكين النفسي، وثلاثتها من عناصر المواطنة الثقافية، وارتباطها بالتدوين الشخصي استندت إلي 66 ردا لاستبيان قمت بتوزيعه عبر الإنترنت. واعتمد المسح على معرفة دوافع المشاركات في البحث للتدوين بقياس رؤيتهن الشخصية لأسباب قيامهن بالتدوين وللإشباعات التي يحصلن عليها نتيجة للتدوين الشخصي ومؤشرات ممارسة المواطنة الثقافية.
وقعت النسبة الأكبر من عينة البحث في الفئة العمرية من 23-27 والنسبة الأكبر منهن كن من حملة المؤهلات العليا(74.2% بكالوريوس،18.2% ماجستيرأو دكتواره). تنوعت الموضوعات التي يكتبن عنها بين الشخصي والاجتماعي والأدبي والفني والهوايات الشخصية. وكان من اللافت للنظر أن قضايا المرأة لم تأت على قائمة الموضوعات الأكثر شيوعا في كتاباتهن(M=3.06).  وكان "تبادل الأفكار" و"دوافع كشف الذات" هي الأسباب الأكثر شيوعا للتدوين الشخصي بين المشاركات في الدراسة (M=3.93, M=3.91).
وقد أسفر تحليل معامل الارتباط عن ثلاثة إشباعات شعرت بهن المشاركات: الأول هو "الشعور بالإندماج الاجتماعي" والذي يتضمن تقدير آراء الأخرين والشعور بالتواصل (M=3.98)، الثاني هو إشباع الحاجة إلى توثيق التطور الشخصي(M=3.86) والثالث هو إشباع الحاجة للشعور بالتأثير والإيجابية(M=3.58). كما أسفر تحليل معامل الارتباط أيضا عن وجود مؤشرات لممارسة المواطنة الثقافية: المؤشر الأول هو "التسامح" (M=3.91) والذي يعني تقبل المشاركات للاختلافات بين الناس أكثر، المؤشر الثاني وهو "الوعي بالذات " (M=3.62)، المؤشر الثالث هو "الوعي بالآخر"(M=3.53) والذي يتضمن إدراك القيم الإنسانية المتشاركة بين الناس. وأسفر معامل الارتباط عن وجود مؤشرين للتمكين النفسي للمشاركات: الأول هو "بناء ذات متطورة في علاقاتها بالبيئة الاجتماعية والثقافية المحيطة" (M=4.00) والتي تعني أن المشاركات تمكن من إدراك رؤيتهن الشخصية للأمور والتفكير النقدي عن حياتهن وعلاقتهن بالمجتمع الذي يعشن فيه. المؤشر الثاني هو "السيطرة والتحكم" ولكن مؤشره المتوسط كان ضعيفا(M=3.42). تم إجراء معاملات إحصائية أخرى لمعرفة مستوى دلالة العلاقة بين الإشباعات الناتجة عن التدوين الشخصي ومؤشرات التمكين وممارسة المواطنة الثقافية وقد جاء مستوى الدلالة إيجابيا   0.01 بما يعني وجود علاقة.

لقد ساعد التدوين الشخصي المدونات المشاركات في البحث على الشعور بالاندماج الاجتماعي والاحتفاظ بسجل لتطورهن الذاتي والشعور بالتأثير. وقد فتح هذا فرصا أمامهن للمارسة المواطنة الثقافية بمعنى أنهن أصبحن أكثر تسامحا وعلى بينة من القيم والمعاني التي يتقاسمنها مع الآخرين وعلى بينة من مواقفهن ومشاعرهن وأفكارهن فيما يتعلق بالبيئة التي يعيشن فيها. وكان هذا أيضا علامة على التمكين النفسي بين أفراد العينة والذي ينطوي على بناء ذات متطورة وفهم للثقافة المحيطة.
 وعلى الرغم من أن نتيجة البحث لا يمكن تعميمها على جميع المدونات المصريات اللاتي يكتبن مدونات شخصية لأسباب تتعلق بعينة البحث وحجمها، إلا أنها تمنحنا البصيرة بنشاط أو وسيلة قد لا تكون نتائجها كبرى ولكنها ذات أهمية.
كلمة أخيرة
وبالعودة إلى شعار "ما هو شخصي هو سياسي" ربما قد أدى عدم الفهم الواضح لما يتضمنه ما هو شخصي إلى الرؤية السلبية للتدوين الشخصي. إذا أخذنا مثالا لتدوينة "دفا" من مدونة "مع نفسي" لغادة محمد محمود تحكي فيها الكاتبة عن موقف تعرضت له أثناء ركوبها "الميني باص" وهو قيام الرجل الجالس إلى جوارها بالميل المتعمد ناحيتها فشعرت بها المرأة الجالسة إلى جانبها من الناحية الأخرى فأحاطتها بذراعيها في محاولة لحمايتها والفصل بينها وبين الرجل، ثم ركبت فتاة أخرى وجلست بين الكاتبة والرجل الذي ما لبث أن مال متعمدا ناحيتها أيضا، فما كان من الثلاثة نساء إلا أن احتضن بعضهن البعض. يمكن النظر إلى تلك القصة البسيطة الناعمة كونها دليلا على ما تتعرض له النساء من تحرشات أو مضايقات، وبالنظرإلي معطيات سياسات النوع فإن مثل هذه الكتابات لا يمكن أن نعدها كتابات شخصية محضة. وقياسا على ذلك يتعدى تدوين الحياة الشخصية والخبرات اليومية ما هو شخصي محض، فمثلا عندما تكتب عن فيلم أو كتاب أعجبك وأثار تساؤلات ما لديك أو عن أغنية استمعت إليها وكيف تأثرت بها نفسيا هل يعني ذلك أن ما كتبت ليس له علاقة بالآخرين؟ حتي وإن كانت الكتابة عن مشاعر أو أحلام خاصة هل يعني ذلك أن الآخرين لا يمكن أن يتعاطفوا معها أوأن يجدوا صلة ما تربطهم بها؟ لقد أثبتت نتائج البحث أن للتدوين الشخصي أثر إيجابي على حياة المدونات المشاركات، ومن هنا يصبح ما هو شخصي ليس فقط هو سياسي وإنما هو اجتماعي وثقافي أيضا. 


The complete study: "women, Personal Blogs, and the Cultural Public Sphere:Surveying Females Blogsphere in Egypt", M.A. Thesis, The American University in Cairo, Fall, 2008.
 مزيد من القراءات:

Bannan, H. (2005, October). Writing and reading memoir as consciousness-raising: if  
the  personal is political, is the memoir feminist? [Review of the books Intimate reading: the contemporary women's memoir, Just beneath my skin autobiography and self-discovery, But enough about m: why we read other people lives, and Unreliable truth: on memoir and memory]. Feminist Collections, 26, p.1. Retrieved April 22, 2008 from http://minds.wisconsin.edu/handle/1793/22244

Burgess, J., Foth, M., & Klaebe, H. (2006, September). Everyday creativity as civic engagement: a cultural citizenship view of new media. Paper presented at the Communication Policy & Research Forum, Sydney, Australia. Retrieved
             July 4, 2008 from http://eprints.qut.edu.au/archive/0000505

Delanty, G. (2002, March). Two conceptions of cultural citizenship: a review of recent literature on culture and citizenship [Review of the books citizenship in diverse societies and culture and citizenship]. [Electronic version]. The Global Review of Ethnopolitics, P. 60. 

Hermes, J. (2006). Citizenship in the age of the internet [Electronic version]. European Journal of Communication, 21(3), 295- 309. 

Herring, S., Scheidt, L., Bonus, S., & Wright, E. L. (January, 2004a). Bridging the gap: a genre analysis of weblogs. In Proceedings 37th Annual Hawaii International Conference on System Sciences, Big Island. Retrieved March 12,2008 from http://www.ics.uci.edu/~jpd/classes/ics234cw04/herring.pdf

Pask, K. (2004). The bourgeois public sphere and the concept of literature. Criticism, 46(2), 241- 256.

Stavrositu, C., & Sundar, S. (2008, April). Can blogs empower women?: designing  
agency- enhancing and community- building interfaces. Work in progress session at the Conference on Human Factors in Computing systems, Florence, Italy. Retrieved from http:doi.acm.org/10.1145/1358628. 1358761




[1] هابرماس صاحب نظرية مؤثرة في بحوث وسائل الاتصال وهي نظرية الرأي العام أو المجال العام The Public Sphere Theory التي يعني بها تلك المساحة التي تنشأ عندما يجتمع الأفراد علانية لمناقشة قضايا ذات اهتمام مشترك من خلال نقاش أو جدل نقدي عقلاني، وتكون في العادة ذات طابع سياسي. ويكون المجال العام الناشيء بذلك خطوة هامة نحو تحقيق الديمقراطية.  وتنبع أهمية ذلك المجال العام الناشيء من تداخل العام ممثلا في الدولة ومؤسساتها والخاص ممثلا في الأفراد وما يمكن أن يحدثه هذا التداخل من نمو وتطوروتأثير للرأي العام في مقابل ضعف هيمنة المؤسسات الحاكمة. آثارت نظرية المجال العام – التي درس فيها هابرماس صعود وهبوط الرأي العام للطبقة البرجوازية في القرن 18 والقرن 19 في أوروبا وتحديدا في فرنسا وانجلترا وألمانيا- جدلا واسعا وقت ظهورها ومازالت تلقى اهتماما كبيرا خاصة من الباحثين في دور التقنيات الجديدة للإنترنت أو Web 2.0 مثل المدونات وشبكات التفاعل الاجتماعي في تشكيل مساحة المجال العام.

[2] المدونات هي "حدوتة" رحاب بسام، "مع نفسي" غادة محمد محمود، "لست أدري" إيمان عبد الرحمن، "ماعت" منى سيف، "عايزة اتجوز" غادة عبد العال، "مدونة ديدو" دينا الهواري، "مدونة إيمان" إيمان مصطفي ، "واحدة مصرية" شاهيناز عبد السلام، "ألتيميا روزا" سامية جاهين.

Sunday, November 20, 2011

المصفوفة


Image from http://indolinkenglish.wordpress.com/

"المصفوفة تحيط بنا أينما كنا. حتى فى هذه اللحظة، فى هذه الغرفة، يمكنك أن تراها و أنت تنظر من شباكك، وأنت تشغل تليفزيونك، بإمكانك أن تشعر بها و أنت ذاهب إلى عملك، و أنت ذاهب إلى الكنيسة، و أنت تدفع ضرائبك. إنها العالم الذى وضع قبالة عينيك ليحجب عنك الحقيقة" مورفيوس لنيو من فيلم المصفوفة. *
1
صراع دائم بين الإرادة و الهيكل... هكذا يلخص علماء الاجتماع حياتنا و علاقاتنا المتعددة و المعقدة... يقيد الهيكل الاجتماعى الإرادة الإنسانية بينما تسعى تلك الإرادة إلى تغييره.

أمضيت الأسبوع الأول من عملى الجديد داخل أروقة مؤسسة دولية يأتى اسمها دوما فى الأخبار مقترنا بالفقر وإثقال كاهل الدول النامية بالديون، مناقضا للهدف التنموى الذى أنشئت من أجله، و أعنى بها مجموعة البنك الدولى. فقد اتاحت لى زمالة برنامج الشرق الأوسط و شمال أفريقيا بمركز معلومات البنك، وهو منظمة غير حكومية وغير هادفة للربح مهمتها مراقبة أنشطة وسياسات عمل البنك الدولى، حضور الاجتماعات السنوية للبنك الدولى و صندوق النقد الدولى، وهى الاجتماعات التى يحرص المركز على حضورها مع شركائه من ممثلى المجتمع المدنى فى البلدان المتأثرة بأنشطة البنك. تمثلت لى ضخامة مبانى البنك واتساع ردهاته و تعدد قاعاته التى تشهد رسم أصحاب الياقات البيضاء للسياسات الاقتصادية العالمية و كأنها انعكاس لحجم تأثيره فى حياتنا.

حضرت مجموعة من الجلسات و المداولات التى عقدت على هامش الاجتماعات السنوية للبنك و تناولت قطاعا عريضا من القضايا المتشابكة بدءا من الدعم الخارجى و فساد البرلمانيين ووصولا إلى قضايا النوع و البطالة و تغير المناخ. و كان لربيع الثورات العربية  نصيب كبير من تلك المناقشات. فقد جاءت الثورات العربية صادمة ليس للقادة العرب فحسب، الذين حسبما يتندر الآن اكتشفوا مطلع هذا العام أن لديهم شعوبا تحمل آمالا و رغبات، و إنما جاءت صادمة للعالم ومؤسساته المختلفة و من بينها البنك الدولى كونه الممول و المحرك الرئيسى لمشروعات التنمية فى العالم بهدف القضاء على الفقر و الظلم الاجتماعى، و الذى أظهرت الثورات العربية والاضطرابات العالمية الأخيرة خلل المنظومة الاقتصادية التى يعمل فى ظلها إضافة إلى الأزمات التى يخلقها نظام هيكلته وأسلوب عمله أو ما يعرف بنهج موافقته على القروض، الذى يهتم بتحريك الأموال على حساب ضمان حسن استخدام و إدارة القروض، والذى أتاح الفرصة أمام حكومات قمعية لسرقة أموال شعوبها والتلاعب بمستقبل هذه الشعوب وأمنها.

وأول ما تعلمته أن البنك يعمل من خلال هكيل تنظيمى معقد، أو إن جاز التعبير مصفوفة، ومصفوفة البنك تعمل من خلال مصفوفة دولية أعقد لها مصالحها وقوانينها الخاصة. إن أردت التمرد على قواعد تلك المصفوفة بهدف تغييرها أو تعديلها فعليك أن تعرف القوانين و المصالح و صراعات القوى التى تحكمها ولغة الخطاب التى تسير عملها. و قد أدخلت على مدار السنوات تعديلات على الهكيل التنظيمى للبنك كان وراءها دفع من المجتمع المدنى العالمى، فأصبح للبنك هيئة للتفتيش بإمكان المجتمعات المحلية المتضررة من مشروعات البنك رفع تظلم لديها و قد سبق أن أوقفت تلك الهيئة مشروعات ثبت أنها تضر بالبيئة والسكان المحليين. كما أصبح للبنك سياسات وقائية من شأنها حماية البيئة وحقوق المجتمعات المحلية، و إن كانت هناك مشكلات عدة تتعلق بعدم وجود مراقبة حثيثة لمدى تطبيق تلك السياسات على أرض الواقع. كما دفعت مؤسسات المجتمع المدنى البنك الدولى إلى تبنى سياسة الإفصاح عن المعلومات و التى تتيح للناس الحصول على وثائق مشروعات البنك فى البلدان المختلفة، و إن كان لايزال يتعين تدريب المجتمع المدنى العالمى الصاعد بقوة على كيفية الاستفادة من تلك المعلومات.

وفقا لتقرير صادر عن مركز معلومات البنك لعام 2007 تعد مصر الدولة الأكثر اقتراضا من المؤسسات المالية الدولية فى منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا. وللبنك الدولى ثمانية وعشرون مشروعا فى مصر، تم الاتفاق علي قروضها خلال فترة حكم مبارك. وتصل قروض بعض هذه المشروعات إلى 600 مليون دولار، وفى معظمها مشروعات لتحسين البنية التحتية والتخطيط العمرانى وتوليد الكهرباء. و هى مشروعات عملاقة تشكل بطبيعتها المعقدة والطويلة الأمد أرضا خصبة للتلاعب وإحداث المخالفات. و انطلقت من مصر مؤخرا حملة لمراجعة ديون مصر التى تقدر بحوالى 35 مليار دولار ودراسة الظروف المحيطة بالاستدانة بهدف إلغاءها باعتبارها ديون كريهة أى تم الاتفاق عليها من قبل نظام لا يمثل شعبه و لا يعمل على مصلحته وعلى علم من المقرض (مثلما حدث فى الإكوادور من قبل). ولكن الأمر ليس بهذه السهولة فالقروض مرتبطة بأموال المودعين و دافعى الضرائب فى بلدان أخرى، وفى ذلك رسالة واضحة إلى المقرضين بأن عدم الاهتمام بمتابعة حسن استخدام و إدارة القروض وتسهيل حصول الحكومات القمعية عليها لأغراض سياسية و التعامل مع الشعوب بمنطق تجارى نفعى لا يقيم وزنا لحقوق الشعوب ومقدراتها من شأنه أن يحدث أضرارا غير محسوبة. 

لقد أحدثت الثورات العربية و ما تبعها من حركات مثل حركة " احتل والستريت" ارتباكا فى مصفوفة البنك والنظام الاقتصادى والسياسى الدولى الذى بات مدركا لوجود قوة جديدة تطالب بالمشاركة فى صنع السياسات و الشفافية و الحق فى مساءلة الحكومات و الأنظمة، وهى قوة الشعوب. وستحدد الأيام القادمة إلى صالح من سيحسم هذا الصراع المتصاعد بين إرادة الشعوب والمصفوفة.

و للمصفوفة تأملات أخرى...















* فى فيلم المصفوفة تستخدم الآلات البشر كوقود لإمدادها بالطاقة اللازمة لبقاءها، ناسجة حولهم حقيقة زائفة عن حياتهم، فهم يعيشون حياة افتراضية وهمية داخل مصفوفة محكمة المراقبة، لكن البشر يفيقون الواحد تلو الأخر ويحاربون المصفوفة.

Tuesday, July 5, 2011

منتصف الثلاثينات

لا أذكر متى تحديدا فقدت الاهتمام بعيد ميلادى .. يحتفل بى الأهل دون اهتمام حقيقى منى سوى التقدير أنهم يريدون إسعادى فى هذا اليوم . تذكرت و أنا أنظر فى المرآة هذا الصباح  قول الشاعرة سعاد الصباح " أريد أن استرجع  العمر الذى خبأته فى المرايا ".. حتما اختلفت الصورة المنعكسة أمامى قليلا و تناثرت شعيرات بيضاء هنا وهناك .. لكن هل أريد حقا استرداد هذا العمر؟ العشرون .. عيون لامعة .. جرأة فى القلب .. شغف بالحياة .. خطايا الغرور و نقص الخبرة .. دهشة الاكتشافات و بداية الانكسارات. ثمة شعور راودنى بالرغبة  فى العودة إلى العشرين بخبرة ووعى منتصف الثلاثينات .. كم من مسارات للتصحيح .. كم من قرارت للتبديل. لكن المرأة المنعكسة صورتها فى المرآة أمامى هى نتاج لهذا العمر الذى مضى بحلوه و مره ، بألمعيته و حماقته ، بنجاحاته و إخفاقاته . إذا ما مضى بنا العمر رتيبا و فضيلا  لأصبحنا شخوصا باهته الملامح ، ذابلة الروح.   
احتفل هذا العام بكل الاخفاقات التى علمتنى الجلد و الصبر والأمل فى المحاولة من جديد .. احتقل بكل حماقاتى  التى علمتنى التأنى و التدبر و التفكر .. احتفل بكل الأخطاء التى علمتنى الفضيلة .. احتفل بكل الصراعات و القيود التى علمتنى البحث و حثتنى على الفهم .. احتفل بكل من رافقنى الطريق و كشف لى خبايا النفس البشرية المحبة و الكارهة و المرهفة و القاسية و الناقمة و الراضية و الجحودة و الشاكرة.  احتفل هذا العام بأحلى العمر .. منتصف الثلاثينات.

Image from writerscafe.org




Tuesday, June 14, 2011

صورة فى خيال

مصرالتى يطاردنى طيفها أينما ذهبت أسافر إليها فى غضون أيام ، بعد مرور عام على زيارتى الأخيرة و بعد إنقضاء عامين من الغربة. يسبقنى شوق لتنفس هواء مختلف هذه المرة ، و يرتجف قلبى خوفا من أن تكون مصر التى أحلم بها مجرد صورة فى خيال ..

Image from globalpost.com

لو لم أكن مصريا

 كتبت هذه الخاطرة فى مايو 2009 بعد مرور ثلاثة أشهر تقريبا على وصولى إلى الولايات المتحدة.. ومازالت مصر الهم الذى لا ينقطع  و مازال يتملكنى شعور بالعجز تجاهها . يعقب الخاطرة تأملات حديثة عن الثورة ..
"لو لم أكن مصريا لوددتُ أن أكون مصريا " تذكرت على التو هذا القول المأثور للمناضل المصرى "مصطفى كامل" الذى كنا ندرس قوله على أنه مبالغة مقبولة ، عندما سألنى شاب أمريكى من أصل أفغانى يحمل من العمر سبعة عشر ربيعاً " لو لم تكونى مصرية أى مكان تتخذينه وطناً أمريكا أم مصر؟" فى محاولة أخيرة منه - حسبما تراءى لى- لفهم و صياغة معنى واضح لمفهوم الوطن الذى لا يعرف عنه سوى ما يحكيه الأهل و ما تتناقله وسائل الاتصال المختلفة . بدا لى أننى أثرت فضول ذلك الشاب " أحمد" بحديثى عن افتقادى لوطنى و أهلى و أصدقائى فأمطرنى بوابل من الأسئلة بدءا من ما الذى أسرنى فى أمريكا؟ و ما الذى افتقده فى مصر؟ و أى البلدين أفضل من وجهه نظرى؟ إلى ما الذى يربطنا بالوطن .. الأرض أم الأهل؟ هو يرغب فى زيارة وطنه الأم أفغانستان يوما ما و لكنه يعتقد أنه سيشعر بغربة شديدة هناك لأن أهله كلهم تقربيا يعيشون بأمريكا ... وطنه الذى اجتاح وطنه الأم كما قال لى ساخرا. فاجأنى أحمد بسؤاله الأخير و لم تكن المفاجأة فى السؤال ذاته بل فى عدم قدرتى على الإجابة . قلت له إنه سؤال يستدعى التفكير ، فبدا عليه القليل من الإحباط .  
ربما كان يبحث فى إجابتى عن بعض السلوى لحيرة شاب فى مقتبل العمر موزع الروح بين ثقافتين و وطنين . هو يرى أن الوطن يتلخص فى الأهل و الأصدقاء و ما يوفره لك هذا الوطن من أمن و رخاء، و لكن أسئلته تشير إلى عدم اقتناعه الكامل بتلك الرؤية. ربما كان يشعر بمسئولية ما تجاه وطنه الأم و يريد طرحا جديدا لرؤيته التى مازالت فى طور التشكل.
تركنى ذلك الشاب فى حيرة من أمرى. لماذا لم أتمكن من الإجابة على سؤاله؟ أهو الخوف من أن تكون إجابتى أمريكا؟ أم لأننى مثله لازلت أبحث عن معنى للوطن؟ لا أنكر إعجابى بأشياء عدة هنا، لعل أبرزها وجود نظام واضح و محدد يتحرك الجميع فى إطاره. و لا أخفى شدة افتقادى للأهل و الأصدقاء ، حتى أننى فى بعض الأوقات أشعر أنه لا ينقصنى سوى وجودهم إلى جوراى ، الأمر الذى قد يجعل من حياتى هنا مثالية. و لا أنكر أنه فى الفترة الأخيرة تملكتنى رغبة فى الابتعاد حتى أتمكن من الاقتراب من جديد..
و لكن تبقى حقيقة واحدة.. لا يختار أحد منا نشأته ووطنه.. مصر هى عشقى و ألمى وهمى الذى لا ينقطع.. هى انتباهاتى واكتشافاتى الأولى  ..هى تمردى على ما هو سائد فيها..هى عجزى عن مواجهه قتلتها و نهابها و فاسديها .. هى هروبى من أحزان ساكنيها...هى خوفى من نارها الدفينة تحت الرماد.
مصر مرور عشوائى و ربيع عاصف..تطرف و تسامح ..تلقائية وتربص.. مصر هى قدرى الذى أحمله معى أينما ذهبت.. فى موسيقى "عمر خيرت" و أغانى" سيد درويش" و " محمد منير" التى تتردد دوماً فى أركان شقتى هنا..فى رباعيات "جاهين" التى تحتل موقع الصدارة على أرفف مكتبتى.. فى لوحة لعظمائها معلقة على حائطى..فى دفتر أوراقى الذى يضم براءة و سذاجة طفولتى.
مصر مسافات قطعتها فى صباى مع صديقات لى جمعت خطواتنا أحلام مقتبل العمر ما تحقق منها و ما لم يتحقق..مصر صورة شعرية لشوقى ، للنيل النجاشى و قلوع المراكب التى تشبه أجنحة الحمام.. نزهة مع والدى فى القلعة و الخيمية و تحت الربع و سوق السلاح.. جولة فى مكتبات وسط البلد.. أمسيات الخميس بنادى المعادى.. ليلة رمضانية فى سيدنا الحسين.. آيات قرآنية تتلوها والدتى بصوتها الحنون لتنير لى الطريق..مصرهى أملى الدائم الذى لا أفقده و لا أعرف لما.
أروى الحكايات و أطلق النكات و أضحك و أبكى بطريقة و نكهة مصرية...مصر هى أنا ..هى بحثى الدائم عنى وسط صخبها و نتاقضاتها .. و سط أحزانها و أحلامها.
  و من هنا يفقد سؤال ذلك الشاب معناه بالنسبة إلىِ ، و يصبح قول "مصطفى كامل" منطقيا و حتميا. فلو لم أكن مصرية لوددت أن أكون مصرية .. لأننى ببساطة لا أعرف إلا أن أكون .. مصرية.
2011
 ثارت مصر و لم أكن هناك .. ثارت مصر و قدر لى أن أشهد ثورتها عبر شاشات التلفزة و أنا عاجزة عن فعل أى شىء .. قدر لى أن أشهد فى غربتى الثورة تعم أرجاء أرضها  التى تحفظ وقع خطواتى و أحلامى . ثارت مصر و لم أكن هناك بين أصدقائى فى الميدان لأستمد منهم الشجاعة و القدرة على الحلم من جديد. ثارت مصر .. و لم أكن هناك.
غيرة .. خجل ..خوف .. شك ..غضب.. وأمل .. تحركت تلك المشاعر و اختلطت داخلى .. غيرة من هؤلاء الشباب الذين استطاعوا إشعال جذوة الحلم .. غيرة من كل من كان فى الميدان .. خجل من ذاتى لأننى لم أملك شجاعة هؤلاء فى فتوة شبابى لأخرج و أفصح و أعلن صارخة عن كل ما يؤلمنى و يقهرنى .. خجل لأن لم يكن باستطاعتى أن أكون هناك ..خوف على أهلى و أصدقائى و أحبائى .. خوف من الفشل.. شك تملكنى تجاه نفسى و سؤال عن إذا ما كانت مبادئى و أفكارى ستثبت و تتغلب على خوفى بذهابى إلى الميدان إذا ما كنت هناك .. غضب من كل من وقف ضد الثوار جهلا أو خوفا أو اعتيادا على حال مؤسف.. أمل فى مصر أخرى جميلة و حرة و أبية.. و أمل فى التخلص من شعور بالعجز يتملكنى كلما تردد اسم مصر.
 

Monday, May 30, 2011

ثوب برتقالى و حلم ملون


منذ استلامنا الدعوة لحضور حفل عيد ميلاد أحد أصدقائها ، أخذت ابنتى نور تفكر و ترتب و تسأل عن مدى اقترابنا من اليوم الموعود. اختارت نور بعناية ثوبها البرتقالى " زى لون الشمس" و حذائها الأبيض و " توكة " شعرها التى لم تنسى أن تكون ملائمة للون ثوبها .و ظلت تحكى عن الألعاب التى ستلعبها ، و تخمن من سيأتى من أصدقائها إلى الحفل ، و تحلم بالبالونات و  التورتة الكبيرة الملونة.
و عندما جاء اليوم المقرر للذهاب ، حدث ما لم يكن فى الحسبان. اجتمعت الأقدار على عدم وصولنا إلى مكان الحفل. كان الأمر غريبا حقا ، مسلك خاطىء ، أعقبه حادث سير كبير أصاب حركة المرور بشلل تام ، ثم إشارة معطلة ، و أخيرا  نفاد الوقود. لآخر لحظة لم تصدق نور أننا لن نستطيع الذهاب للحفل الذى انتظرته أسبوعا كاملا بفارغ الصبر و ارتدت من أجله فستانها المفضل. بكت نور بشدة و اختنق صوتها  وسط دموعها و هى تعلن عن رفضها للوضع القائم و رغبتها فى الذهاب إلى الحفل الآن . ضممتها إلى صدرى و حاولت تهدئتها، رفضت فى البداية ثم استسلمت و بدأت فى الاستماع إلىّ ، شرحت لها ما حدث مرة ثانية و أتفقنا على أن نذهب إلى مكان آخر أعرف أنها تحبه ، و كعادتها اختتمت نور حديثها معى بأمل فى تحقق حلمها الطفولى البسيط فى وقت آخر " حنروح عيد الميلاد فى مرة تانية .. مش كده ؟ ".

حبيبتى .. يعجبنى تمسكك بتحقق أحلامك ، إن لم يكن اليوم فربما غدا . صغيرتى ستأتى أيام  ترتدين فيها للحياة أبهى ثيابك و تتزينين بآمالك و انطلاقاتك ، لكن أقدار الحياة لا تأبه أحيانا بالزينة و الأحلام الملونة. إذا حال طريق الحياة بينك و بين حلم لك ، و إذا لم ينجح مسعاكِ فى الوصول إلى أمر كنت ترغبين فيه ، و إذا ما جاءت الأيام بغير توقعاتك ، أريدك أن تتذكرى أنه لا ضرر من الضيق و الحزن و حتى البكاء ،  تلك مشاعر لا يمكن أن نمنع أنفسنا من الإحساس بها ، مساحة من الوقت لا تطول و لا تلقى بك فى دوامتها. أريدك أن تستدعى تلك الروح الصغيرة البريئة القادرة على المواصلة و الحلم من جديد. أريدك أن تعرفى أنها بداخلك مهما كبرت و أنها ستجد لك مسلكا ، بإذن الله ، مهما كان طريق الحياة صادما و و عرا .