Monday, March 28, 2011

المكتوب

  (1)

عندى هوس بفعل " كتب " ، كتب يكتب فهو كاتب ، و أوراقه التى أودعها أفكاره هى المكتوب .. الساحر.. المغير.. المقلق . " كتب " هو الفعل الأكثر تأثيرا فى حياة البشر .. الفعل الحافظ  للإنسانية ذاكرتها .. اندثرت أقوام و لم يبق منها غير المكتوب ، رسائل من أزمان و عقود سحيقة تحكى قصصا و تسجل تجارب و تؤرخ لأحداث. يسحرنى المكتوب ، يلقى على بتعويذة تأسرنى . عند قراءتى لنظرية علمية أو شخوص روائية أو فكرة أو تحليل لحدث أو موقف ما ، أشعر أن صاحبها يتحدث إلىِ و يسر إلىَ بأفكاره واكتشافاته و خيالاته ، فيتخطى كلانا حدود الزمان و المكان من خلال ثنائية الكاتب و القارىء ، تلك الثنائية التى يخلد فيها القارىء الكاتب بتعاقب الأجيال ،  فإذا ما وقعت عينا القارىء على الأسطر التى خطها كاتب من زمن بعيد  سمع همسات خواطره تتردد فى عقله ، فكأن الروح تبعث فى الكاتب من جديد ، و تعود الحياة إليه فى كل مرة يتصفح أحدهم كتابه. و من أكثر ما أحب ، قراءة خواطر أو انطباعات أو استنتاجات  قارىء مكتوبة على هامش كتاب..علاقة حميمية أخرى تنشأ بينى و بين قارىء احتضن السطوربعينيه قبلى .  كنت أقرأ منذ وقت قريب كتابا من مكتبة "جد" زوجى كتب عام 1939 ، الكتاب و أوراقه الصفراء الرقيقة بعث فى قلبى ارتجافة لمجرد أننى أقرأ أفكارا دونت قبل أكثر من سبعين سنة.. و تأثرت أكثر عندما قرأت ما دونه "الجد" بخط يده على بعض هوامش الكتاب. 

اكتشفت أن هذا الهوس بفعل "كتب" كان وراء اهتمامى بأدب الاعتراف و الذى تمثل فى قيامى بإعداد و تقديم برنامج إذاعى متخصص فى أدب السير ، ثم اهتمامى بالمدونات الشخصية التى كانت محور دراستى للماجستير ، و أخيرا دراستى لمنهج الإثنوجرافى المستخدم فى العلوم الاجتماعية ، و يعنى ببساطة تدوين قصص و عادات مجموعات من البشر من خلال المعايشة و الملاحظة ، و يقوم فى الأساس على ما كتبه الباحث فى مذكراته الميدانية. أعشق قراءة الروايات و أدب السير.. حيوات متوازية أعيش  فى عالمها لساعات .. أتركها .. لأعود إليها بلهفة .. يجمعنى و بعضها صداقة تمتد لعمر بأكمله .

(2)

 لماذا نكتب؟ هل هى الحاجة إلى الإفضاء كنوع من العلاج الذاتى؟  الحاجة إلى الظهور و الإعلان عن الوجود شخصا و فكرا ؟  الحاجة إلى الخلود؟ أم الحاجة إلى المشاركة؟ على اعتبار أن أكثر الكتابات خصوصية هى موجهه فى الأساس إلى قارىء كما ذكر هابرماس Habermas ( ذلك الفيلسوف الألمانى الفذ الذى سأذكره مرارا لأن نظريته الشهيرة " الرأى العام " كانت محور دراستى).  

بالنسبة إلى ، أنا أكتب حتى لا أختنق بأفكارى و هواجسى و أحلامى و ما أكثرها .. الكتابة هى طريقى الوحيد لتخفف من تلك الأثقال .. أكتب لأفهم ، لأتواصل ، و لأتصالح مع ذاتى و زمنى و سنين حياتى . أكتب لأن الكتابة هى الدليل على أنى مررت من هنا ذات يوم .. الدليل على أنى كنت  أحب .. أفكر .. أخاف .. أحزن .. أفرح .. الدليل على أنى كنت أحيا .

اتخذت الكتابة و احتياجى إليها بعدا أخر بميلاد ابنتى نور .. أصبحت الكتابة أمرا مُلحا .. فأنا أريدها أن تقرأنى و تعرفنى و ترانى فى هيئتى الإنسانية الخالصة. لا أريد أن أكون مجرد السلطة العليا .. صاحبة التوجيه و مسئولة الملبس و المشرب و الترفيه .. أريدها أن تعرفنى كما أنا بنجاحاتى و اخفاقاتى .. بنقاط ضعفى و نقاط قوتى .. لا أعرف كم من السنين سأحيا بقربها .. لذا أريدها أن تعرفنى و أن تسامحنى إن تكونت فى قلبها على مدار السنوات غصة  تجاهى .. أريدها أن تتذكر لحظاتنا الحلوة معا .. أريد لها أن تعرف كم أحبها .. أريدها أن تعرف أن ضحكة عيونها تشرح صدرى . ولذا سأضم إلى المدونة لاحقا جزءا خاصا بابنتى و نور حياتى " نور" ستكون فى مجملها  رسائل عن الأمومة و سحرها و ارتباكاتها .


   

3 comments:

  1. " أكتب حتى لا أختنق"
    جميل جدًا :)
    -------
    أحب زيارة الإدراج الأول (عادة قديمة!) و أسأل: كيف تجد/ين رحلة التدوين بغاية الآن، و هل أولّك ما يزال ساري المفعول؟ :]

    ReplyDelete
  2. @Haitham Jafar
    أشكر لك مرورك الكريم..ومنح خواطري بعضا من وقتك:)
    وأشكر لك أيضا إعادتي للإدراج الأول..لايزال أولي ساري المفعول:) الكتابة عشقي ومتنفسي..أما عن رحلة التدوين فهي في مجملها جميلة مجرد فكرة أني أكتب وأترك كلماتي في هذا الفضاء ليقرأها قارئ عابر في مكان ما أمر ساحر بالنسبة إلي.. ولكني مدونة قليلة الإنتاج والتواصل:) لدي مفكرة صغيرة بها مشروعات خواطر وتدوينات واكتب تقريبا طوال الوقت في عقلي ولكن سرعة أفكاري ليست بنفس سرعة إنجازي.. يأخذني ما هو يومي عن الكتابة في أحيان كثيرة
    على العموم عودتي إلى الإدراج الأول جعلتني افتح مفكرتي الصغيرة وأشرع في الكتابة ..شكرا لك

    ReplyDelete
    Replies
    1. مع مشاغل الحياة تكون المواظبة على التدوين صعبة و لكن -برأيي- تستحق التعب :)

      Delete